رسالة الملك إلى الرئيس والتأزم في لبنان

TT

فاجأ خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز المجتمع السياسي اللبناني برسالة إلى رئيس الجمهورية اللبنانية يسترعي النظر فيها خمسة أمور:

الأمر الأول: التعبير عن القلق «لتطورات أحداث طرابلس خصوصا لجهة استهدافها لإحدى الطوائف الرئيسية التي يتكون منها النسيج الاجتماعي اللبناني». والمقصود بالطبع إثارة الفتنة في طرابلس، والتي امتدت الآن إلى عكار. في طرابلس جرى اختطاف شادي المولوي من جهاز أمني رسمي بحجة انتمائه لتنظيم إرهابي، والشاب ذو ميول سلفية، لذلك فقد ثار شبان السلفيين (نحو ثلاثمائة شاب)، وهم يرقصون على أي حال من دون دف، وكان هذا مقصودا، لأنه عند ذلك تدخلت مئات العناصر المخترقة وغير الواضحة الانتماء، من فقراء الشبان الذين يرتزقون بحمل السلاح لصالح سائر الأطراف، فأُطلق النار في الهواء أو بين صفوف المعتصمين من أجل المولوي، وأُسقطت قذيفة في جبل محسن، وكان ينبغي أن يموت من ورائها أحد، فرد الشبان من هناك بالمدفعية، وتجددت اشتباكات ما بعد عام 2005 (عام خروج الجيش السوري من لبنان)، وسقط خلالها عشرة قتلى حتى الآن.

والمعروف أن الأشقاء القدامى يملكون بجبل محسن نحو ألف مقاتل مدرب جيد التسليح. وقد تولى حزب الله أمورهم بعد عام 2005، كما بادر لتسليح ثلاثة تنظيمات (سنية) بالمدينة هي: حركة التوحيد بزعامة ابن سعيد شعبان، وحركة هاشم منقارة، وجبهة العمل الإسلامي. وفعل الشيء نفسه في بيروت والبقاع وصيدا. ويرجع ذلك إلى أن احتلال بيروت عام 2008 هدد بإشعال حرب بين السنة والشيعة، لذلك اعتمد الحزب بعدها استراتيجية اختراق صفوف السنة لكي تأتي الضغوط عليهم من الداخل إقلاقا واستنزافا وإشغالا، هذا بالإضافة إلى الحزب القومي السوري الذي دخل مع حزب الله إلى بيروت، وبادر لإحراق تلفزيون «المستقبل» آنذاك، وهو يملك مكاتب مسلحة في بيروت وطرابلس وعكار حتى الآن.

وهكذا فإن عُدَّة استهداف المسلمين واستنزافهم حاضرة دائما. أما السبب الظاهر الآن فهو تضايق النظام السوري من وقوف أهل الشمال والبقاع إلى جانب النازحين السوريين، والتظاهر المستمر ضد النظام في سوريا بسبب المذابح التي يقوم بها ضد شعبه منذ أكثر من عام. وقد زاد النظام السوري إلى «فضائله» المعروفة لدى سائر اللبنانيين، اتهام «الأصوليين والإرهابيين السنة» بتهريب السلاح إلى سوريا، وبالدخول في الإرهاب القاعدي وغير القاعدي. وقد كان «منطق» النظام السوري - كما صرح الرئيس الأسد مرارا - نشر الاضطراب بين السنة وعليهم في لبنان، ما دامت الثورة قائمة عليه بسوريا. وهو - كما يقول - إنما يريد كبح جماح البعبع الأصولي السني، ومعاقبة الأنظمة الخليجية لأنها تدعم المعارضة السورية الثائرة. ولذلك سُرعان ما التقطت أجهزة الأمن اللبنانية مريضا قطريا عجوزا كان يجري عملية جراحية بأحد المستشفيات واتهمته بتمويل الإرهابيين من أهل السنة من أمثال شادي المولوي. ثم أُضيف للاضطراب بطرابلس مقتل شيخين على حاجز للجيش بعكار، فانتشر المعتصمون وسدوا الطرقات في عكار أيضا، وتعمق الإحساس بالخوف وفقدان الأمن والاستهداف في سائر أوساط أهل السنة بالبلاد.

الأمر الثاني: إقبال الملك عبد الله بن عبد العزيز على التوضيح أن قلقه من استهداف أهل السنة لا يعني اختصاص أهل السنة بالاهتمام؛ بل إن المملكة وسائر دول مجلس التعاون كانت مع استقرار لبنان دائما بسائر طوائفه ومكوناته، ومن اتفاق الطائف (1990) إلى لقاء الدوحة (بعد احتلال بيروت بالسلاح عام 2008)، ولجهة إعادة الإعمار بعد الحرب، وإعمار ما دمرته إسرائيل في حرب عام 2006. ولذا فإن مبادرته هذه إنما تأتي في سياق الاهتمام بلبنان بوصفه بلدا عربيا عزيزا.

والأمر الثالث: تنبيه الملك عبد الله بن عبد العزيز للبنانيين والعرب أن الفتن بالداخل اللبناني والتي يمكن أن تؤدي لفتنة طائفية عامة، وحرب أهلية، إنما كانت ولا تزال نتاج «مصالح فئوية ضيقة»، و«خدمة لمصالح أطراف خارجية لا تريد الخير للبنان، ولا المنطقة العربية عموما». فهناك الصراع السياسي الداخلي الذي يتخذ سمات طائفية، والذي ينضح من الأطراف المشاركة في الحكومة، التي صارت أحد أسباب التوتر والتأزم لجهة حساسيات أطرافها تجاه بعضهم بعضا، وحساسية بعضهم تجاه المسلمين، ولجهة تبعية سائر أطراف الحكومة بما في ذلك رئيسها للنظام السوري. وهناك انتماء المسيطرين والمتنفذين في الحكومة والأجهزة الرسمية للمحور الذي لا يريد الخير للبنان ولا للمنطقة العربية.

والأمر الرابع: التنبيه إلى أن المملكة مع «النأي بالساحة اللبنانية عن الصراعات الخارجية خصوصا الأزمة السورية». لكن الواقع أن سياسة النأي هذه والتي تعلن أطراف في الحكومة (ومن هؤلاء رئيس الحكومة) اعتناقها والسير فيها، انقلبت إلى الضد، بمعنى أنها تحولت واقعا إلى داعم ومنفذ للتدخل السوري الفتنوي في البلاد. فوزير الخارجية بالحكومة يقول علنا بالتضامن مع النظام السوري، ووزير الدفاع يعلق مؤيدا اتهامات الجعفري (مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة) للبنانيين (السنة) بالإرهاب!

والأمر الخامس والأخير: الاستنتاج الذي يتوصل إليه العاهل السعودي استنادا إلى هذا التشخيص لعناصر الاستقطاب والتأزم، أنه يكون على رئيس الجمهورية اللبنانية حامي الدستور والمؤسسات، وضامن استقلال لبنان واستقراره، أن يتدخل بمقتضى صلاحياته أولا، وبمقتضى مبادرته السابقة للحوار الوطني، لمتابعة هذا الحوار وتجديده، بما يفكك عناصر الأزمة، ويقود لبنان إلى بر الأمان.

ما توقفت المملكة العربية السعودية عن العناية بالشأن اللبناني. وكانت قد قادت في عامي 2009 و2010 مبادرة لإنهاء الانقسام، وصنع المصالحة. وهي المبادرة التي ذهب بمقتضاها سعد الحريري إلى دمشق خمس مرات، وبمقتضاها جاء العاهل السعودي إلى لبنان بصحبة الرئيس بشار الأسد. لكن التجاوب الأولي من جانب الرئيس السوري وحزب الله ما لبث أن تراجع وانقلب إلى الضد، وقال الأمين العام لحزب الله بعد ذلك إنه ما تجاوب أخيرا «لأسباب وطنية»! والأسباب «الوطنية» المذكورة هي التي دفعت الطرفين في خريف عام 2010 إلى الانقلاب على حكومة سعد الحريري، والمجيء بحكومة نجيب ميقاتي، التي عزلت أهل السنة سياسيا، وهي تحاول الآن إغراقهم في الثوران وردود الفعل بعد عام طويل من الاستنزاف للدولة والمؤسسات، وضرب عوامل المناعة والاستقرار.

إن هذا الذي جرى في «اليوم الطويل للحياة القصيرة» داخلتْهُ أمور ثلاثة: صدور القرار الظني من المحكمة الدولية في جريمة قتل الرئيس الحريري، وقيام الثورة في سوريا على نظام الرئيس بشار الأسد، وانتشار التأزم في مناطق النفوذ العربية التي بنتها إيران في عهد الرئيس بوش الابن الطويل. وقد دفع ذلك الإدارة الإيرانية إلى الهياج بالداخل والخارج، ومحاولة الإفادة في الوقت نفسه من المبادلة مع المجتمع الدولي بشأن ملفها النووي.

تأتي مبادرة العاهل السعودي إذن تجاه لبنان ورئيسه في وقت يشتد فيه التأزم في لبنان متمظهرا في استهداف أهل السنة. لكنه تأزم ناجم عن تأزم المحور الذي أتى بحكومة الاستبعاد في لبنان معتقدا أنه انتصر بها وفيها. وهكذا فهي فرصة حقيقية للبنان، لأن الزمن زمن جديد.. فهل يستجيب فخامة الرئيس لمبادرة الملك، وهل يستجيب صانعو التأزم؟! المرجو ألا تحول دون الاستجابة «الأسباب الوطنية» التي وقفت من قبل في وجه عشرات المبادرات من العرب، ومن المملكة العربية السعودية بالذات.. «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».