الأوان

TT

منذ بدايات ظاهرة العنف كحل أو كوسيلة سياسية، ناشدت المراجع الأساسية في العالم العربي أن تعمل على استنكاره لكي لا يبدو سكوتها مباركة. فالعنف لن يبقى في مكان واحد ولن يوفر أحدا. راعيه اليوم ضحيته غدا.

ثم إنه يعطي للعرب صورة تلاحقهم إلى أجيال، وتبرر اضطهادهم، وتسوغ فكرة عزلهم. ولن يكون في إمكان كل عربي أن يضع على صدره شارة تقول: صحيح إنني عربي لكني لست قنبلة عمياء ولا انفجارا إجراميا.

وكنت أناشد العرب استنكار الطغيان وسياسات التنكيل والموت، لأنها ذات يوم سوف تنقلب على الجميع. ولأننا أضحينا المنطقة الوحيدة في الأرض التي لا تزال خانعة لظاهرة الاستبداد الذي ازدهر وأفسد القرن الماضي. أميركا اللاتينية أسقطت 90 في المائة من الأنظمة العسكرية الحديدية، وفي آسيا خرجت إندونيسيا من سجون العسكر والفساد إلى آفاق الحياة والمستقبل والازدهار. والصين أطبقت «الكتاب الأحمر» لتفتح كتاب الدنيا ونوافذ الحرية.

ندفع الآن صمت الكبار. في العراق قتل العنف مليون بشري ويقال أكثر. وفي اليمن يوسع العنف المقابر المفتوحة. وفي لبنان ينفجر العنف المسلح بعد العنف اللفظي الأكثر قباحة. وفي سوريا يستخدم النظام العنف كسياسة يومية طبيعية وكأن الناس تقتل في مكان آخر. وفي مصر يظهر «عبود الزمر» كزعيم سياسي قائلا «ولو أبيد الشعب المصري برمته» وكأن الشعب المصري دجاجة في حديقته.

تركت المراجع الأساسية للعنف أن يبدو وكأنه يتمتع ببركتها. العنف اللفظي والعنف السياسي والعنف الفكري والعنف الاجتماعي والعنف القاتل الذي هو وليد كل هذا. عنف وطغيان. ودفعت دول القانون إلى خانة الخوف والحذر. وبدت الآدمية كأنها نقص أو عيب. وصار الطيبون والعقلاء أيتام الأمة، لأنهم لا يخوفون أحدا، بل يخافون على مصائر الشعوب وأحوالها وتردي البلدان وانفجارها وخرابها.

كذلك كان حالنا منذ أن صار العنف سمة الحياة وطريق الموت وصمت المراجع. وها هو العنف يتمدد متوحشا بجميع أشكاله وتبريراته ومسوغاته وتجميلاته. والذين صمتوا عنه يقبعون خائفين، يدركون متأخرين أنهم ساهموا في خلق هذا الغول الذي لا ينتشي إلا بالدماء ولا يزدهر إلا في الخرائب. ثمة وقاحة فظيعة في إحصاء القتلى والسجناء والجثث مجهولة الهويات. ومثل المدنيين الذين يعتدون عليهم بالسجن والقتل والتشريد والرعب والجلوزة، صار الجنود يموتون في انفجار الساحات. ولم يعد العنف حكرا عليهم، بل صار وسيلة للتبادل والتخاطب.

ربما قطعت دائرة العنف باب العودة. ربما تأخر المؤثرون والمسؤولون عن الأخلاق الإنسانية في تحريم هذه الظاهرة التي لا تعرف ولا تعترف إلا بالقتل، ولا يهمها من هو القتيل ولا أين ولا لماذا.