صمود «النموذج السعودي» أمام التحولات التاريخية

TT

تراهن شريحة من الكتاب والمحللين والناشطين على حدوث تحولات جذرية في بنية الدولة السعودية و«اختفاء الدور السعودي» في المسارات السياسية والدينية والاقتصادية على كل الأصعدة الخليجية والإقليمية والإسلامية والدولية.

يسهل على المتابع ملاحظة ذلك أثناء القراءة المتأنية لبعض الكتب والمقالات والدراسات، وأثناء المتابعة لبعض الحوارات التلفزيونية، وما يبديه بعض المشاركين من أفكار ومواقف وتنبؤات لمستقبل العالم العربي عامة ودول مجلس التعاون الخليجي خاصة.

من الواضح أن الكثير من أولئك الكتاب وصناع الرأي لا يدركون «مصادر» القوة والنهضة والاستمرارية في المملكة العربية السعودية، وربما نحن السعوديين، من رسميين وغير رسميين، من يلام على ذلك، لاختيارنا - أحيانا - التخلي عن المشاركة الفعالة في بناء منظومة ثقافية وعلمية عن واقعنا وطموحاتنا، وعن مراحل تاريخ التنمية الشاملة في بلادنا، وعما تملكه ثقافتنا من مخزون ثقافي ثري أسهم وما زال يسهم في صيانة تلاحمنا وصلابة إرادتنا وصمود بنيتنا أمام التحولات والتحديات.

وللحقيقة فإن مسار الفكر في الحضارة العربية والإسلامية لم يمنح أهمية تذكر للدراسات الاجتماعية عن الشعوب والأمم التي انضوت تحت الممالك الإسلامية في دمشق وبغداد والأندلس والأستانة والقاهرة وغيرها من العواصم والمدن.

لذلك استغرب المفكر والكاتب المعروف «برنارد لويس» في كتابه «الإسلام والغرب» من المسلمين الذين لم يبذلوا جهدا في دراسة الشعوب أثناء الحكم الإسلامي، وذكر بأن من أسباب تمكن الغرب من التأثير على الشعوب المسيحية وغير المسيحية دراسة أحوال ونفسيات وثقافات وتواريخ مختلف الشعوب والديانات والكيانات، مسخرين الإمكانات للوصول للشعوب ودراسة تواريخها وأصولها وآثارها ومصادر ضعفها وقوتها. أعود بالقارئ إلى المملكة العربية السعودية التي يعود تاريخها السياسي إلى قرابة 300 عام، ويمتد تاريخ الوحدة التي صنعها السعوديون باستقلالية وبقوة ذاتية - كما هي في الوقت الراهن - لأكثر من مائة عام.

إن مصادر القوة والنهضة والاستمرارية في السعودية تنبثق من الاعتزاز العميق بالمبادئ التي قامت عليها الدولة السعودية، ومن التمسك الكامل بالانسجام بين القيادة السياسية وكل شرائح الشعب، مع الجهود العلمية المضنية لصنع التوافق المعقول والمقبول بين الدين القيّم والمدنية الحديثة، وتوظيف الموارد الاقتصادية في مصلحة الشعب وبناء الدولة على أسس متينة وحديثة.

استطاعت القيادة السياسية أن تَعْبر المراحل التاريخية الصعبة في شراكة حقيقية مع العلماء والمثقفين والمختصين والمؤثرين في المجتمع السعودي، وأن تسلك المسالك المأمونة من دون أن تضطر لتحالفات ولتنازلات، أو لمزايدات وتكتيكات.. في انسجام مدروس محسوس بين المبادئ والتطلعات، وبين القيم والمستجدات.

كانت القيادة السياسية تحرص على التميز في تفكيرها، وعلى الامتياز في الأداء، مستهدفة انبثاق التغيير من ثقافتها لإدراك قادتها الملوك المعتزين بشعبهم وعروبتهم ودينهم ومسؤولياتهم، من عهد الملك عبد العزيز رحمة الله عليه إلى العهد الحاضر عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز، أن أي تحول لا ينبثق من رغبة داخلية ومن مبادئ وقيم يؤمن بها الشعب ويضحي الناس بأنفسهم في سبيلها، لن يؤدي الغرض المتوخى منه مهما حسنت النوايا، ومهما أنفق من أموال وسطر من ادعاءات ودعايات. لذا، اتسمت السياسات السعودية بالمحافظة والتأني عند اتخاذ القرارات الحاسمة لمعرفة المزيد من الخيارات، وللتحقق من النتائج والمآلات.

تتوخى القيادة السعودية على الدوام العواقب المحمودة والنتائج المضمونة في مسيرتها التاريخية لإحساس القادة والعلماء وصناع القرار بالمسؤولية التاريخية، غير متطلعين لفرقعات إعلامية أو نتائج سريعة تختفي آثارها قبل جفاف حبر أقلام موقعيها أو مروجيها ومادحيها, الأمر الذي أوقع الكثير من المتابعين للشأن السعودي، ومن المراهنين، في حيرة أحيانا وفي تخبط أحيانا أخرى.

لقد راهن البريطانيون في الربع الأول من القرن الماضي على عدم قدرة السعوديين المسمّين بالوهابيين على صناعة دولة حديثة تستطيع الحياة فضلا عن الازدهار، وكانت النتيجة نجاح الدولة السعودية في بناء أول وحدة عربية، بينما سقطت بعض العوائل والممالك والدول التي زرعتها أو رعتها بريطانيا العظمى بتخطيط وحماسة.

وكذلك راهن الناصريون والقوميون في الستينات من القرن الماضي على التحولات الداخلية في السعودية واختفاء الدور السعودي الفاعل، وكانت النتيجة أنهم اختفوا وبقيت الدولة السعودية أقوى مما كانت عليه، وراهن بعض الإسلاميين السعوديين من قادة الصحوة الإسلامية في نهاية الثمانينات على أهداف متخيلة، ولم يتمكنوا من ذلك، بل التفتت الغالبية منهم لنفسها وعادت لبناء الجسور مع الحكومة ومع المثقفين، وراهن الصداميون في التسعينات على التوجه نفسه، بل أقام صدام حسين صلاة الغائب في بغداد أمام كاميرات التلفزيون على السعودية، فماذا حدث، وما مصيره وما مصير أزلامه وأتباعه؟!!

ثم راهن البعض في تحالف تشكيكي تحريضي دولي مخيف بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) الكارثية عام 2011 على نهاية البلاد السعودية بحدوث تمرد أو تقسيم أو ثورة داخلية أو غزو خارجي، ولم يحدث شيء من ذاك البتة.

وها هي الحالة العربية الراهنة تشير إلى مرحلة جديدة من الثورات والتحولات، يوضح ذلك سقوط أربعة أنظمة عربية والخامس في الطريق ومع ذلك لم تنجح قوى ظاهرة وباطنة في تسيير مظاهرة «حُنين» التي استحقت في 2011/3/11 الانتظار، واكتسبت الدعاية والتحريض، وما زال المجتمع السعودي ينعم بالاستقرار ويتمسك بالمبادئ والانسجام ويسابق الزمن للتطوير والتحديث بعقلية سعودية وإرادة سعودية وشراكة مجتمعية بين مختلف القطاعات الرسمية والخاصة والتطوعية.

يتبين من ذلك أنه مطلوب من المختصين والكتاب والناشطين دراسة التاريخ، وفهم نفسيات الشعوب وثقافتها ومصادر قوتها، كي لا يخلطوا بين الأحداث ويفترضوا حتمية التحولات في دول ومناطق معينة من خلال أمانيهم وتصوراتهم لا من خلال مصادر وموازين القوى لكل دولة وكيمياء تفاعل أسباب التغيرات والتحولات في الدول والشعوب والمجتمعات.

ولعل من المفيد العودة لقراءة ما أحدثته الثورة الفرنسية عام 1789 من آثار وامتدادات باعتبارها أهم ثورة حقيقية في التاريخ المعاصر. لقد هزت دول ودوقيات وممالك أوروبا قاطبة، ووصلت ارتداداتها لأميركا الشمالية لتبعث في الكل روح الثورة والحرية والمساواة.

غيرت الثورة الفرنسية الأفكار والمعتقدات والمفاهيم، وأعادت رسم حدود الدول، وتساقطت عروش وإمارات في أوروبا حتى أصبحت الثورة متعددة الاتجاهات، وأصبح السّلم مستحيلا. مع ذلك كله بقيت مملكة بريطانيا صامدة في وجه الثورة الأممية العارمة غير متأثرة سلبيا بما تأجج حولها من ثورات ونزاعات وحروب.

استطاع البريطانيون قراءة المستقبل واستيعاب المستجدات قبل 100 عام تقريبا من بداية الثورة الفرنسية المجيدة. طورت بريطانيا نفسها بنفسها من خلال استيعاب مفاهيم وأفكار حركة التنوير الثقافية الانقلابية الإصلاحية التي اجتاحت أوروبا منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي. كانت تلك الحركة التاريخية المفصلية تدور حول الإنسان والإنسانية وسيادة الشعب والحرية والمساواة والسعادة المشتركة.

تبنت بريطانيا منطلقات التنوير، فاستطاعت أن تحافظ على مكتسباتها، وأن تصنع نسخة بريطانية فريدة للتغيير والتطوير من خلال مبادئها وتاريخها وثقافتها وتطلعاتها. صمدت بريطانيا، بل وتحولت من دولة إقليمية محدودة إلى دولة عظمى لا تغيب عنها الشمس.

من ذلك النموذج التاريخي يمكن القول: إن قابلية التأثر بالتحولات والثورات والهزات تختلف من دولة لدولة، ومن شعب لشعب، ومن مجتمع لمجتمع. لذا، فإن المراهنين على تحولات جذرية في السعودية وعلى «اختفاء الدور السعودي» كنتيجة لارتدادات الروح الثورية التي حملها «الربيع العربي» مخطئون في قراءتهم للواقع السعودي وللمستقبل السعودي، إضافة إلى أنهم مبالغون في حجم ما أنتجه «الربيع العربي»، وفي التوقعات الإيجابية لمسارات التغيير في الدول التي سقطت - غير مأسوف عليها - أنظمتها السياسية المتخشبة.

لقد أثبت النموذج السعودي العربي المسلم قدرته على الحياة والاستمرارية والصمود والتطور واستيعاب المتغيرات والصدمات والمستجدات. ويمكن اعتبار ذلك النموذج إضافة في سجل الحضارة الإسلامية، لاستيعابه للمستجدات، مع محافظته على قيمه واستقلاليته في مسيرة متنامية تحظى باعتزاز الشعب السعودي المتلاحم وبثقة الأمة الإسلامية وباحترام الدول الشرقية والغربية.

النموذج السعودي استوعب قيمة الإصلاح الداخلي المستمر، ولم يدخل في مغامرات سياسية أو عسكرية خاسرة، مما حفظ للدولة مكانتها وهيبتها، وحافظ على البلاد من القلاقل القاتلة والانتكاسات المحبطة. مما يشجع على القول بثقة إن «النموذج السعودي» صامد أمام التحديات، وإن الدور السعودي يتنامى من دون تعثر أو تقهقر.

إن السعوديين - بلا تردد - عازمون على مواصلة مسيرتهم لتحقيق ما هو أفضل وأكمل، بعيدا عن الهزات المقلقة والتحولات المدمرة، مع الاستعداد للتفاعل مع الأحداث من خلال انتمائهم لهويتهم، واعتزازهم بوطنيتهم، وتمسكهم بنموذجهم الحضاري الفريد.

* أكاديمي وكاتب سعودي