سياسة ودين!

TT

بعد سنوات غير قليلة من التشكيك، بل من التخوين والتكفير في كل ما هو آت من الغرب، كان يتبناها بقوة الخطاب الديني السياسي الإسلامي، يتابع العالم بدهشة هي أقرب للذهول، الانخراط الكامل لحركات الإسلام السياسي في المنظومة الديمقراطية (والتي كانت تعتبر شركا وأداة تغريب للمجتمعات ووسيلة علمنتها وغير ذلك من التهم والإدانات المؤدلجة)، فهذه التيارات أتقنت فنون اللعبة السياسية المطلوبة في العملية الديمقراطية تماما مثل نظرائهم في دول الغرب، فأطلقت الأحزاب، واخترعت الشعارات، واستخدمت الإعلام بمهارة وحرفية، وكانت موجودة في الإعلام التقليدي والجديد الرقمي منه كذلك عن طريق متحدثين رسميين أو شخصيات افتراضية، وأقاموا الندوات والمناظرات، وأسسوا الحملات وأطلقوها عابرة للمدن والقرى ومتواصلة مع الأجيال وسائر الطبقات.

ضحالة وضعف الموروث الفقهي السياسي وغياب الفكر والثقافة الكافية لتأصيل حقيقي لمبدأ الدين في السياسة والسياسة في الدين واختزالها بشعار رمادي مطاطي خال من التفاصيل مثل «الإسلام هو الحل»، هو الذي أدى إلى ضرورة أن تتبنى هذه التيارات شعارات ومبادئ وأهدافا كانت تنتقدها وتحذر منها وترفضها وتشكك فيمن يدافع عنها، مثل مبادئ حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق المواطنة السوية وحقوق العمل، وغير ذلك من المبادئ الإنسانية التي اتفق عليها المجتمع الدولي، وكانت دوما ما يتم التشكيك فيها ومحاربتها من قبل الإسلام السياسي المتطرف واعتبار كل ذلك «مصيدة خطيرة» الغرض منها «التغرير بالأمة الإسلامية وإضاعة شبابها والقضاء على مستقبلها»، وغير ذلك من العبارات المهولة والمنذرة والمحذرة لهذا «الخطر العظيم».

تحليل هذه الظاهرة وتغير موقف الحركات السياسية الإسلامية تجاه فكر الديمقراطية والمشاركة في فكرة «غربية وغريبة» واستخدامها لصالح تحقيق أهداف «دينية» لا يزال منقسما بين فريقين. فهناك فريق يرى أن هذه الحركات تستخدم هذه الوسيلة من باب أن الغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي يمكن استخدامها والتعامل معها بأسلوب التقية والمداهنة، وأنه لا مانع «شرعيا» من ذلك، وهناك فريق آخر يعتقد أن هناك فصائل مهمة من الجيل الجديد في الحركات السياسية الإسلامية لديها قناعة كاملة بأهمية تغير الآراء والمواقف القديمة وإعادة تبني وسائل معتمدة عالميا في كافة المجتمعات ولدى كافة الشعوب.

وستكشف الأيام ما هي حقيقة الأسباب التي جعلت التيارات الدينية السياسية الإسلامية منها تحديدا تأخذ هذا الخط بما فيها التيارات الأكثر تشددا والمتبنية للخطاب السلفي، وهي التي كانت دوما ما تنظر لفكرة الديمقراطية بالكثير جدا من الشك والريبة وعدم الطمأنينة، ولكنها ها هي أيضا تنغمس في ذات التجربة وتتبع ذات الخطى ونفس النهج والخطاب السياسي «الجديد»، ويحاول المدافعون عن التيارات هذه تبرير التحولات الجديدة بأنها مراجعة كاملة للأفكار والمبادئ والأهداف الأولى، وأتذكر لقاء جمعني بأحد الأشخاص المفتونين بهذه النوعية من الطروحات، وكان بحضور إحدى الشخصيات المحسوبة على التيار السياسي الديني، وكان يدافع عن أفكاره «الجديدة» ويستشهد بقدرة هذا الفكر على التحول والتطور والتكيف مع متطلبات «المرحلة»، فسألني عن رأيي فيما سمعت فقلت: ومن المسؤول عما كان يقوله من قبل والمناداة «بالجهاد» ضد الكفرة وتكفير المجتمعات المسلمة بشتى صورها حتى أهدرت الدماء وراحت أرتال الشباب ضحايا لهذه النوعية من الأفكار والتصرفات والتوجهات.

الجماعات الإسلامية الراغبة في الدخول للمعترك السياسي رافعة وملوحة براية الدين عليها أن تصغى جيدا لما قاله لها رجب طيب أردوغان الذي لا يزال أفضل النماذج والأنظمة في الحكم الرشيد لمن أخذوا السياسة بالنكهة الإسلامية حين قال: على هذه التنظيمات أن تتبنى الفكر المدني كحل للحكم. وكلامه يبدو واضحا أنه الحل الأمثل وتبقى العبرة لمن يفهم ويعي، ولا يكابر بجهل وعنجهية.

[email protected]