ليست أزمة ولا تقرير شرطة

TT

تحال الحروب الداخلية مع الوقت على تقارير الشرطي، ظل تقرير الشرطة الرسمي يصدر طوال 17 عاما في لبنان، عن عدد القتلى وأماكن سقوطهم، تماما مثل نشرة الطقس، ومعدل البورصة.

منذ عام، صارت نشرات الأخبار تحصي عدد القتلى في سوريا وعدد الأطفال منهم، وفقدت عدد المفقودين والمعتقلين.

وتبلغنا النشرة بين حين وآخر بحجم المليارات التي خسرتها الدولة.

هذه ليست الحرب. تقارير الشرطة الجافة تُكتب بحبر غير إنساني. علامات الحرب هي انتشار البؤس والفقر والذل اليومي، وهي خوف الليالي اليومي والخوف على المصير وخوف الأهالي على بيوتهم ووطنهم. سألت سيدة في حي بابا عمرو لماذا لم تغادر مع بقية الناس لتركيا؟ فأجابت: موت البيت ولا ذل الخيمة.

تعودنا في لبنان أن نرى عمالا سوريين في كل مكان، يأتون إلى هنا يبنون ويحرثون الأرض منذ سنوات طويلة جدا، ولكننا لم نكن نرى مثل اليوم عمالا في الثانية عشرة من العمر يخلطون الإسمنت ويحملونه على رؤوسهم. هذه هي الحرب. ليست في أن الدولة تخسر مليار دولار في اليوم، لأن العقوبات لم تطل يوما أصحاب المليارات، بل في أن الناس بجميع فئاتهم يخسرون هناءهم وطمأنينتهم.. وغالبا كرامتهم.

لم نرَ من قبل العمال السوريين بمثل هذه الأعداد. وكان واضحا أن مجيئهم إلى بلد صغير وبلا موارد نتيجة طبيعية لإخفاق النظام الاقتصادي الذي كان يعيش خارج العالم وبعيدا عن قواعد الإنتاج، لكن الآن مجيء صفوف من اليافعين الذين يجب أن يكونوا في المدارس، وإلى جانب أهاليهم، هو دليل على تفاقم آثار الحرب، كما على عبثية المكابرة.

لا معنى للشعارات الطنانة مع العوز، وإذا كان من الممكن العثور على حلول لفظية للحروب والمآسي الداخلية، فذلك لا يغير شيئا في طبيعة المأساة أو في حقيقة المشاعر البشرية، ولكن من دون حرب داخلية مرافقة. وكان صدام والقذافي يتباهيان بالصمود الذي كان سهلا في 48 قصرا وفي باب العزيزية أو مع نساء الخيمة في سرت. لكنه لا يمر بهذه البساطة على ملايين البشر وآلاف المعذبين الذين تغلق أعمالهم ومدارسهم ثم بيوتهم.

ليس القتل وحده هو الحرب. ضياع المستقبل هو أيضا الحرب. العذاب والذل وتفرق العائلات هو أيضا الحرب. وهؤلاء الذين يحملون الإسمنت على ظهورهم الطرية هم الحرب. لم تعد المسألة الآن إلى أين أودى النظام الاقتصادي المتحجر بسوريا، وإنما إلى أين تودي بشعبها هذه المأساة التي لا يزال رئيسها يسميها «الأزمة»؟!