من غرنيكا إلى الحولة الشهيدة!

TT

في 26 أبريل (نيسان) 1937 قام الألمان المتحالفون مع فرانكو بقصف مدينة غرنيكا فمسحوها عن الأرض بنسبة سبعين في المائة. من يستطيع أن يتصور حجم الحرائق التي اندلعت؟! من يستطيع أن يتخيل صرخات النساء والأطفال التي ارتفعت إلى أعلى السماء؟! في تلك الأثناء كان بيكاسو الإسباني الأصل قد أصبح فرنسيا واستقر في باريس منذ عام 1900 بالضبط. فهاجت هوائجه عندما سمع بالنبأ الجلل وشاهد صور المجزرة المروعة. وكان أن اختلى بنفسه ودخل في مصهر الإبداع الخلاق ورسم رائعته الكبرى: «غرنيكا». وهكذا خلد ذكرى تلك المدينة الباسلة إلى أبد الدهر. وخلد نفسه أيضا. وعندما سألوه عن الموضوع قال ما معناه: الفن التشكيلي لم يخلق عبثا. إنه لم يخلق لتزيين البيوت والجدران. الفن التشكيلي ملتزم في جوهره وأساسه. إنه أداة من أدوات الحرب الهجومية والدفاعية ضد العدو. لكن من هو هذا العدو؟ من يقصد بالضبط؟ عن هذا السؤال يجيب بيكاسو قائلا: إن الحرب الأهلية الإسبانية الدائرة حاليا هي حرب الرجعية ضد الشعب، أو ضد الحرية. وحياتي كلها كفنان لم تكن إلا نضالا متواصلا ضد الرجعية وموت الفن أو استقالته. وفي اللوحة التي أرسمها الآن والتي سأدعوها «غرنيكا»، كما في كل لوحاتي الأخيرة، فإني أعبر بوضوح عن تقززي من الطغمة العسكرية التي جعلت إسبانيا تغطس في بحر من الدماء والآلام والموت.

والآن نسأل: من هو الفنان الذي سيخلد ذكرى مدينة الحولة الشهيدة؟! أين هي اللوحة التي يمكن أن ترتفع إلى مستوى تلك التوابيت الصغيرة للأطفال - الزهور؟! أين هو بيكاسو سوريا والعرب؟! أكثر من مائة قتيل في يوم واحد! بينهم أكثر من ثلاثين طفلا! والحبل على الجرار.. تارة نسمع عن تفجيرات إرهابية تصيب دمشق مرتين وتحصد الناس عشوائيا بالعشرات والمئات. وتارة أخرى نسمع عن قصف الحولة وغير الحولة.. وتارة ثالثة نسمع عن اغتيالات لأبناء الشخصيات والكوادر العلمية والثقافية.. ما الذي يراد لهذا البلد؟! هل يريد المتطرفون من كل الجهات تدميره قبل تقسيمه؟! هل يريدون أن يجعلوا التعايش مستحيلا بعد أن تبلغ الدماء الركب؟! هل هناك مخطط ما في الجو؟! أسئلة كثيرة يطرحها المرء على نفسه. ولكن مسؤولية البلد الأولى تقع على كاهل الحكام. فشعب بأسره عندما ينتفض لا يمكن مواجهته بهذه الطريقة. الشعب السوري ليس صغيرا لكي يعامل على هذا النحو. إنه من أعظم الشعوب وأكثرها إنسانية ورقيا. إنه مؤسس أول إمبراطورية عربية إسلامية في التاريخ.

كان الفيلسوف الألماني كانط يصرح: قد لا أقول كل ما أعتقد به في قرارة نفسي، ولكني لن أقول شيئا لا أعتقد به. بمعنى آخر: لن أكذب ولن أفرط بالحقيقة أو ما أعتقد أنه الحقيقة. قد لا أقول الحقيقة كلها لأني عاجز عن ذلك في الظرف الراهن ولكني لن أقول شيئا مضادا للحقيقة ولقناعاتي بالذات. بمعنى آخر: لن أنتحر!.. ففيلسوف أخلاقي كبير جدا مثل كانط إذا ما كذب فقد كل مصداقيته.. من يستطيع أن يقول الحقيقة عن القصة السورية الآن؟! أقصد من يستطيع أن يشرح كل ملابساتها ليس فقط القريبة وإنما أيضا البعيدة الضاربة في أعماق التاريخ؟!

كان المؤرخ الفرنسي الشهير فرنان بروديل قد بلور الأطروحة التالية: هناك مشاكل ضخمة لا يمكن فهمها إذا ما موضعناها ضمن منظور المدة القصيرة للتاريخ. بمعنى آخر فإن الزمن الصحافي السريع لا يكفي على الإطلاق. من بينها مشكلة الطائفية من دون شك. لن تفهم المشكلة السورية ولا العراقية ولا اللبنانية ولا الخليجية.. إلخ، إذا ما موضعتها داخل شريحة زمنية لا تتجاوز الأربعين أو الخمسين سنة. هذه مدة قصيرة جدا بالنسبة لمجرى التاريخ الطويل. ينبغي أن تعود بها إلى العصور العثمانية، أي إلى ما قبل أربعمائة أو خمسمائة سنة. بل وينبغي أن تعود بها إلى ما قبل العصور العثمانية حيث تشكلت الفرق الإسلامية لأول مرة لكي تستطيع القبض على جذورها الأولية. عندئذ تفهم معنى الجدلية الصراعية الحاصلة على مدار التاريخ بين الإسلام الغالب والإسلام المغلوب.

بمعنى آخر ينبغي أن تطبق منهجية التحليل النفسي على التاريخ الإسلامي كله. فالعقد المذهبية التي تصيب الشخصية الجماعية مثل العقد النفسية التي تصيب الشخصية الفردية وتؤرقها. ولا يمكن تحرير الجماعة منها إلا بعد الكشف عن جذور هذه العقد في أعماق التاريخ. تماما كما لا يمكن تحرير الشخص المريض من عقده وأوجاعه قبل أن يعود القهقري إلى مرحلة الطفولة الأولى حيث انعقدت خيوط العلة لأول مرة.

ولكن من يستطيع أن يعود إلى الوراء، وأن يسبح ضد مجرى الزمن؟! من يستطيع أن يتذكر الأشياء المرعبة أو المزعجة التي قد تكون حصلت في طفولته؟! كل حياته بناها على طمسها ونسيانها. من يتجرأ على أن يخوض معركة الحقيقة والصراحة مع ذاته؟! كان رامبو يقول: المعركة مع الذات أخطر من معارك الرجال. وهذا بالضبط ما ينقصنا نحن العرب والمسلمين اليوم. إننا لا نتجرأ على رؤية تاريخنا كما جرى بالفعل لا كما نتوهم أنه قد حصل. من يستطيع أن يعود إلى لحظة الفتنة الكبرى؟!

من يستطيع أن يراها من خلال المنظور التاريخي - الاجتماعي - السياسي، وليس فقط من خلال المنظور اللاهوتي القداسي اللاتاريخي المهيمن على عقول المسلمين بكل طوائفهم ومذاهبهم؟! فإذا كنت شيعيا تراها من خلال منظور شيعي فقط معتبرا إياه بمثابة الحقيقة المطلقة. وإذا كنت سنيا فعلت الشيء ذاته.. وإذا كنت إباضيا خارجيا كانت لك وجهة نظر ثالثة.. وكل واحد يكفر الآخر ويدينه ويعتبره خارجا عن صحيح العقيدة.. كيف يمكن أن أتعايش معك أو أثق بك إذا كنت أعتقد في قرارة نفسي بأنك كافر؟! انظر المشكلة التي تطرحها الجماعات الجهادية المتطرفة. وانظر فتاوى التكفير التي تخلع المشروعية «الإلهية» على التفجيرات الإرهابية. كم من الآلاف المؤلفة حصدت في العراق وغير العراق؟!

من الذي طبق المنهج التاريخي على الفرق الإسلامية وحررنا من كل التصورات الطائفية التي ورثناها عن عائلاتنا ومذاهبنا؟! إنه ليس عربيا ولا مسلما! وإنما هو المستشرق الألماني الكبير جوزيف فان أيس في موسوعته الضخمة بستة أجزاء: «اللاهوت والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة». إذا أردت أن تطلع على كيفية تشكل الفكر الديني في بدايات الإسلام فاقرأ هذا الكتاب. إذا أردت أن تعرف كيف حصلت الفتنة الكبرى والانقسامات المذهبية بشكل علمي - تاريخي (وليس على طريقة المشايخ التقليديين) فلا بد من استشارته. سمعت أن الأتراك والفرس يترجمونه أو ترجموه. ولكن أين العرب أصحاب الرسالة بالذات؟!