طبول الحرب في «الحولة»

TT

لم أستطع مشاهدة صور مجزرة بلدة الحولة في سوريا كاملة، إلا مرة أو مرتين، رغم كثرة عرضها على الشاشات.

شعور جارف بالقرف يجتاحك وأنت تشاهد مناظر جثث أطفال رضع أصيبوا بطلقات نارية على الرأس، وعن قرب.

أي مشاعر خسيسة حركت من قام بهذه الفعلة الهمجية؟!

حاولت أن أفهم الأمر، لو أن القتلى كانوا سقطوا جراء قصف من بعيد، لربما، تفهمنا الأمر باعتبار هذا جزءا من الحرب، ولكن طلقات مباشرة على الرأس، وبعضها ضربات بالسواطير والخناجر، لأطفال وشيوخ ونساء.. فأمر يتجاوز الفهم الطبيعي، إلى التعامل مع «غرائز» طقسية يمارسها القتلة، وكأنهم يقدمون قرابين بشرية لآلهة وثنية ما، كما نقرأ عن الشعوب البدائية القديمة.

فتحت قناة «الدنيا» التابعة لنظام الأسد، لعلي أجد تفسيرا لهذه البشاعة، فوجدت ما يصدم فعلا، إنكار لأن يكون القتلة هم شبيحة النظام وجيشه المجرم، وتحميل من سماهم ضيف البرنامج، اللبناني، شاكر البرجاوي، «الجماعات الإرهابية»، وتوافقه المذيعة بهز الرأس وإبداء التأثر على الأطفال القتلى!

شككت في نفسي، وقلت ربما كان القتلة فعلا هم الجماعات الإرهابية، كما قالوا، ولكن كيف تقتل الجماعات أهالي بلدة يناصرونها؟! وأهل البلدة من السنة، الخزان الاجتماعي والحاضن للثورة؟! ثم رأيت تقريرا صوّره المراقبون الدوليون بعدساتهم، وفي هذا التقرير تجد شهادات حية من أهالي البلدة عن قصف الجيش لهم، وقالت عجوز قروية مسكينة بلهجة تلقائية: «العلوية فاتوا علينا». وهي تصف قطعان القتلة بالسواطير والمسدسات.

حتى الجنرال روبرت مود، رئيس بعثة المراقبين الدولية، أكد أنه تم استهداف المدنيين بالقصف بالمدفعية والتصفية عن قرب بإطلاق الرصاص. رغم لغة مود الناعمة والمتبنية في جانب منها لرواية النظام عن وجود عنف مشترك بينه وبين المعارضة، لكنه أقر صراحة بقصف الجيش للحولة ووجود إطلاق نار عن قرب على الرؤوس والأجساد، ليأتي مجلس الأمن - رغم الدعم الروسي الصيني لنظام القتل الأسدي - ويندد بالإجماع بالحكومة السورية بسبب هجماتها بالأسلحة الثقيلة على بلدة الحولة، حيث وقعت مذبحة راح ضحيتها 108 أشخاص على الأقل، بينهم أطفال كثيرون.

وقال بيان غير ملزم أصدره المجلس «يندد مجلس الأمن بأقوى العبارات الممكنة (لاحظوا أقوى العبارات الممكنة!) بأعمال القتل التي أكدها مراقبو الأمم المتحدة لعشرات الرجال والنساء والأطفال وإصابة مئات آخرين في قرية الحولة قرب حمص، في هجمات شملت قصفا بالمدفعية والدبابات الحكومية على حي سكني». لكن، افتح على قناة «الدنيا»، أو شاهد أبواق النظام الأسدي، خصوصا من اللبنانيين، لترى العجب العجاب، إنكار وتهويش وتغطية للشمس بغربال.. هل هذه المجازر الهمجية جديدة على ثقافة الحكم الأسدي، حتى نستغرب أن تقع هذه المجزرة، ويسفح إعلام الأسد الدموع الكاذبة ويبدي الاندهاش البلاستيكي؟

سلسلة من المجازر ارتكبها النظام، بطريقة طقسية وحشية، من حماه وجسر الشغور وتدمر في الثمانينات إلى صفحات المجازر في لبنان، والآن حماه ومعها حمص تنال نصيبها من جرائم ومجازر قوات الأسد. إنه منهج مستمر ودائم، ويأتي بعد ذلك محمد حسنين هيكل، صديق الأسد، ويحاول تسويق رواية النظام الأسدي علينا من خلال اصطناع العمق وكشف المؤامرات الكونية على الأسد. وبمناسبة الحديث عن الحرب «الكونية» على الأسد كما يكرر إعلامه بكثرة، فالحقيقة أن هذه المؤامرة أو الحرب الكونية تقع على الشعب السوري نفسه وليس على النظام.

النظام الأسدي يحظى «بدلع» ورعاية ما بعدها رعاية، وصبر ما بعده صبر، وتفهم ما بعده تفهم، من المجتمع الدولي، لم ينل عشر معشاره نظام حسني مبارك أو نظام القذافي، وقبلهم صدام حسين.

أوباما الأميركي، وبوتين الروسي، اجتمعا على دعم خطة عنان الميتة أصلا، التي الغرض منها فقط إطالة عمر الكارثة في سوريا، وليس تقديم الحلول الجذرية.

إيران، نوري المالكي، حزب الله، ميشال عون، روسيا، أميركا، «الناتو»، الصين، بان كي كون، كوفي أنان، كلهم يمدون في عمر النظام.

الغريب أن الهمس والجهر أيضا الدولي في تفسير منع النجدة العسكرية والسياسية عن الشعب السوري، هو الخوف من الحرب الأهلية وتمكن الجماعات الأصولية المسلحة، وفي خلف الصورة كلها طبعا مراعاة المصلحة الإسرائيلية.

أقول إنه منطق غريب، لأن عدم دعم المعارضة واحتضانها وتغذيتها، وسرعة الحسم في سوريا مع هذا النظام القاتل، هو الذي سيفجر الحرب الأهلية، وهو الذي سيعظم دور الجماعات «الجهادية» ضد نظام الأسد، فما حيلة المقتول والمحاصر إلا أن يستعين بالشيطان نفسه لحماية وجوده، كما قال شارل ديغول ذات مرة.

هل يعي المجتمع الدولي خطورة هذا التقاعس وهذه الرخاوة وهذا التذاكي المكشوف في منح المهل لإطالة عمر الأزمة؟

كلما طال بقاء النظام زاد التطرف والعنف وانحسر الاعتدال والخطاب الوطني.. هذه هي زبدة الأمر، بالإذن من مستر أوباما. وبقية المسترات في الغرب.

نحن أمام تعامل غربي ودولي إما جاهل بطبيعة المنطقة أو متآمر لتصل الأمور إلى مستنقع الحروب الأهلية وتفجر النزاعات الطائفية والدينية في الشرق الأوسط.

هل تتسبب كارثة الحولة وبعدها كارثة حماه في إحداث صدمة إيجابية لهذا العقل الغربي الرخو في التعامل مع الأزمة السورية؟

نرجو ذلك، رغم أن المؤشرات لا تبشر بخير، فهذه جريدة «نيويورك تايمز» تذكر في عدد الأحد الماضي أن روسيا تواجه ضغوطا دولية متزايدة لاستخدام نفوذها لتنحية الأسد مع ازدياد القتل في سوريا، وآخرها مقتل 90 شخصا في بلدة الحولة في حمص. وأشارت إلى أن النموذج اليمني يخضع للكثير من المناقشة في روسيا، إلى حد أنه أصبح يعرف في الولايات المتحدة باسمه الروسي «ييمينسكي فاريانت».

وقال مسؤولون أميركيون إن أوباما سيبحث هذا المقترح باللقاء الأول الذي يجمعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأوضحوا أن مستشار الأمن القومي الأميركي توماس دونيلون سبق أن ناقش الخطة مع بوتين في موسكو قبل ثلاثة أسابيع. وقال مسؤول أميركي «إن الولايات المتحدة جاهزة لطمأنة روسيا أنها ستستمر في إقامة علاقات وثيقة مع دمشق بعد الأسد». غير أن المسؤولين قالوا إنه على الرغم أن ميدفيديف لم يرفض اقتراح أوباما حول اعتماد الحل اليمني، فإنه لم يوافق عليه بشكل قاطع.

وهكذا تتعامل إدارة أوباما بهذه الخفة والمقايضات السطحية مع التعنت الروسي في مأساة سوريا.

من جانب آخر، نجد إيران داخلة في عمق الجريمة في سوريا، كما اعترف مؤخرا اللواء إسماعيل قائاني، نائب الجنرال سليماني، القائد العام لفيلق القدس، (قوة النخبة في الحرس الثوري الإيراني)، بمشاركة فيلق القدس العسكري على الأراضي السورية والضلوع في قمع المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد، وذلك من خلال تصريحات زعم فيها أنه لولا حضور الجمهورية الإسلامية الإيرانية لكانت المجازر التي ترتكب بحق الشعب السوري على يد المعارضين أوسع من هذا، كما ذكرت وكالة أنباء «إيسنا» الإيرانية، شبه الرسمية. كما نجد روسيا تمد نظام الأسد بالسلاح، والدعم السياسي، معها الصين، وحزب الله ضالع في الجهد الأمني والحربي بفتوى من خامنئي.

إذن: لماذا لا تبادر السعودية وقطر وتركيا وكل دول الخليج، بل والدول العربية والإسلامية «الجاهزة» للدعم الفعلي والحقيقي والعلني لإنقاذ سوريا وشعبها من جرائم الأسد ومطامع إيران والروس.

برهان غليون محق حين دعا إلى شن معركة التحرير الكبرى وترك الدبلوماسية خلف الظهر. انتهى زمن المهل والدبلوماسية.. إنها الحرب.. لمن يريد أن يرى الحال دون قناع.

[email protected]