هل يغرق النظام في عنفه؟

TT

هل يغرق النظام في موجات العنف المتتابعة، التي أطلقها في كل اتجاه من أرض سوريا، بأمل إغراق الشعب فيها، وكتم أنفاسه بواسطتها، وتحقيق هدف مستحيل يجري وراءه منذ قرابة خمسة عشر شهرا هو: رده إلى زمن ما قبل 15 مارس (آذار)، يوم نشوب ثورته التاريخية الحالية؟

صار من الضروري طرح هذا السؤال، بعد أن أصر النظام على العنف في تعامله ليس فقط مع شعبه، وإنما كذلك مع العرب والعالم، وعلى البدء بما سبق لي ولغيري أن حذرنا منه منذ أشهر، ألا وهو أقلمة الصراع وتحويله من صراع في سوريا إلى صراع عليها، عبر محاولاته إشعال نار الفتنة في شمال لبنان ومدها إلى بقية أرجائه، وربما لنشرها مستقبلا في البلدان العربية المجاورة، حيث توجد بؤر صغيرة تؤيده وتأتمر بأمره. ومن لم ينس بعد، لا بد أن يتذكر كيف أحبط النظام أي حل سياسي داخلي، رغم محاولات المعارضة المستميتة تجنيب البلاد تجرع سم الحلول الأمنية التي اعتمدها، وتحذيراتها المتعاقبة من نتائجها الكارثية، التي ستتجلى في عجزها المؤكد عن إخراج الشعب من الشارع، وبالتالي عن كسر شوكته، وفي نجاحها المؤكد في إلحاق دمار هائل بالمجتمع والدولة السوريين، خدمة لأعداء سوريا والعرب وطلبا لحمايتهم، ثم رغم محاولات العرب تقديم مبادرة تلبي طموح شعب سوريا الثائر ومطالبه وتحافظ في الوقت نفسه على البلاد موحدة ومستقلة، وأخيرا محاولة مجلس الأمن إيجاد مدخل إلى حل من خلال مهمة كوفي أنان. ومثلما أفشل النظام الحل الداخلي والعربي، ها هو يفشل اليوم الحل الدولي أيضا، بإصراره على استخدام عنف أعظمي ضد الشعب، الأعزل في أغلبيته الساحقة، الذي يواصل قتله ويوسع عملياته الحربية ضده، رغم إعلان مجلس الأمن الرئاسي وما نص عليه بنده الأول من وقف العنف وسحب الجيش إلى ثكناته. لم يسحب النظام الجيش من الشوارع، ونجح في تحويل المراقبين من جهة تطبيق البند الأول المذكور إلى جهة تتعايش مع وجود الجيش في كل مكان وقيامه بإطلاق النار على المواطنين بمناسبة وبلا مناسبة، مما أفقد السوريين ثقتهم بمهمة أنان ومجلس الأمن، وجعلهم يرون في المراقبين أدوات سياسة دولية ضعيفة وعاجزة عن فعل أي شيء يحفظ حياتهم ويصون ممتلكاتهم، ويعينهم على بلوغ أهدافهم المشروعة في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة. يتساءل المواطن السوري: إذا كان تطبيق البند الأول مستحيلا، فهل سيكون تطبيق البند الأخير، الداعي إلى إقامة نظام ديمقراطي، ممكنا، وإذا كان ممكنا، كم ألف عام سيستغرق تطبيقه في ظل علاقات القوى القائمة اليوم؟

برفضه أية سياسة مغايرة للعنف، نشر النظام عنفه في كل مكان، وأوصله إلى أماكن لم يكن يخطر ببال مخلوق أنه قد يصل إليها، وبالتالي أجبر بشرا مسالمين يعيشون في أرياف نائية وليس لديهم أية مشكلة مع أي أحد، على الدفاع عن أنفسهم بالوسائل المتاحة لهم، وربما كانت أسلحة الصيد البدائية، التي كان النظام نفسه يظهر صورها في التلفاز كدليل على وجود عصابات مسلحة خير برهان على أن الشعب لم يكن مسلحا أو راغبا في العنف، وحين وجد نفسه أمام موجات عنف عمياء تستهدف وجوده وممتلكاته، لجأ إلى ما بين يديه من وسائل وأدوات بدائية مما يستخدم في الحياة اليومية لريفي يحمي دجاجاته من الثعالب ويصطاد بين فينة وأخرى طائر سمان أو طائر حجل. لكنه، مع اشتداد العنف الرسمي وتصاعده وتحوله من عنف يستخدم البنادق إلى عنف يستعمل المدافع الثقيلة والدبابات والطائرات السمتية، اضطر للبحث عن بندقية كلاشنيكوف، بينما كان أول سلاح ناري رأيناه مسدسا رفعته يد أحدهم خلال إحدى مظاهرات حمص، التي ضمت عشرات آلاف المتظاهرين.

واليوم، والعنف ما زال نهج نظام يصر عليه ولا يريد أن يحيد عنه، ماذا كانت نتيجته؟ كان هناك أول الثورة عدد قليل جدا من البنادق المرخصة قانونيا في أيدي المواطنين، وربما كان هناك عدد أقل من البنادق في أيدي من هم بحاجة إليها من رعاة وبدو يخافون على قطعانهم من الحيوانات المفترسة ومن في حكمهم من المواطنين. أما اليوم، فقد أجبرت الدبابات والمدافع الشعب على طلب السلاح دفاعا عن وجودهم وما يملكون، وقد انتشر السلاح بالفعل في كل مكان، لكنه سلاح أناس مسالمين لا يعتدون على أحد ولا يهاجمون أحدا ولا يريدون أن يكونوا عنيفين ضد أحد، ويتمنون أن لا يهاجمهم الأمن كي لا يستخدموه حتى ضد رجاله؟ هل يفكر النظام بحقيقة تفقأ العين، هي أن خططه الأمنية لم تنجح إلا في شيء واحد: دفع الشعب إلى مقاومة العنف الذي يتعرض له بالسلاح؟ ألا يفكر أرباب النظام بأن هذا النجاح سيقضي عليه، وأنه لا قبل لجيشهم الموزع والمشتت في كل مكان بمواجهة الشعب المسلح، خاصة وأنه جيش تنخره تناقضات لا يستهان بها، أهمها التناقض بين قياداته وقواعده، التي تنتمي إلى الشعب ولا شك في أنها ستواصل الانفكاك عن المؤسسة العسكرية إلى أن تجد هذه نفسها مفتقرة إلى جند يموتون من أجلها؟ هذا العامل سيكتسب بمرور الوقت أهمية متعاظمة، فضلا عن عامل آخر هو أن معظم أبناء سوريا يملكون حدا من التدريب العسكري يؤهلهم لاستخدام السلاح بطرق منظمة وفاعلة، وبما أن عدد هؤلاء كبير جدا، من المرجح أن يغرق النظام في العنف الذي بدأ باستخدامه ضد شعب أعزل ومسالم، وواصل استخدامه بلا هوادة، وها هو يغرق فيه، كما تدل على ذلك تفجيرات حي القزاز الأخيرة المدانة، التي مثلت نقلة هائلة الخطورة في تصعيد العنف، أكدت أن النظام لم يعد الطرف الوحيد في الصراع، وأنه لم يعد يسيطر على الأحداث والأوضاع، ولا يمتلك زمام المبادرة، وأنه إذا كان يسدد في الماضي ضربات لا يتلقى ردا عليها، فإن هذا الزمن ولى وانقضى، لأن من لا يمتلك الدبابات يمكن أن يمتلك المفخخات والسيارات المتفجرة، التي لها قدرات تدميرية لا تقل عن قدرات مدافع الدبابات، مثلما تبين في انفجار القزاز، حيث وقعت مجزرة حقيقية بالأمن ضباطا وعناصر.

وصل النظام إلى مأزق حاسم، فهو إن واصل عنفه تلقى مقابل الضربة ضربتين، ووجد نفسه عاجزا عن تغيير علاقات قوى جديدة تزيد الشعب قوة وتزيده ضعفا، وإن تراجع وأوقف العنف آل إلى موقع ضعف يقوض سلطته.

وصل النظام إلى هذه النقطة أو أنه قريب جدا منها، بعد أن أغلق بعنفه ضد الشعب المظلوم جميع منافذ نجاته، وبلغ وضعا صفريا فيه نهايته المحتومة، التي لن يفيد العنف في تحاشيها، بل يجعل وقوعها مسألة وقت فقط!