إسرائيل.. «البيضاء»

TT

مظاهرات تل أبيب العنصرية المنددة بـ«الأفارقة» والمطالبة بترحيلهم إلى بلادهم، لو خرجت في أي بلد آخر ديمقراطي تعددي الإثنيات والأديان، لجاز اعتبارها ظاهرة اجتماعية، في أحسن الحالات، ومعيشية في أسوأها.

أما أن يتفجر الحقد العنصري في إسرائيل بالذات، ويطال كل «الملونين»، حتى اليهود منهم، فظاهرة تتجاوز عوامل الحساسيات العنصرية المعهودة ومشاعر العداء التقليدية للأجانب لتطرح سؤالا كبيرا حول «أهلية» الهوية الدينية لأن تكون مرتكزا للدولة القومية في القرن الحادي والعشرين.

بعد مظاهرات تل أبيب الصاخبة ضد «الأفارقة» يجوز التساؤل: إلى متى سيبقى الرابط الديني لدولة إسرائيل قادرا على جمع يهود «الشتات» بانسجام اجتماعي داخل كيانها السياسي، بصرف النظر عن «تلاوينهم» العرقية؟

لو انحصر التمييز العنصري بين اليهودي «الأبيض» واليهودي «الأسود» بمشاعر الشارع الإسرائيلي، لأمكن إدراج مظاهرات تل أبيب في خانة أعمال الشغب أو التصرفات الغوغائية. ولكن تجاوب عدد من كبار الرسميين الإسرائيليين مع ما يمكن تسميته بتيار تمييزي متنام داخل المجتمع الإسرائيلي يعطي التساؤل عن المصداقية القومية للرابط الديني بعدا مستقبليا يصعب تجاهله؛ فوزير الداخلية، أيلي يشاتي، دعا إلى وضع الأفارقة «وراء القضبان» رافضا السماح لهم بالعمل في إسرائيل، والمدعي العام الإسرائيلي، يهودا واينشتين، أعلن تأييده لقرار «ترحيل جماعي» للسودانيين الجنوبيين في إسرائيل «إذا لم يكن هناك أي خطر على حياتهم في بلادهم»، فيما وصفت ميري ريغيف، النائبة عن حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أولئك المهجرين الأفارقة بـ«السرطان». أما رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، فقد تعهد بترحيل من وصفهم بـ«المهاجرين غير الشرعيين» في أقرب فرصة ممكنة.

بعد أكثر من ستة عقود على تشكيلهم لدولتهم، ينبذ الإسرائيليون مواطنيهم الأفارقة عوض أن ينبذوا العنصرية التي كانوا هم أكثر من عانى منها على مدى القرون المنصرمة.

صحيح أن إسرائيل، المفترض أن تكون وليدة الاضطهاد العرقي النازي، لم تعرف يوما بأنها دولة تسامح عنصري، ومعاملة الإسرائيليين للفلسطينيين، أبناء الأرض الأصليين، أفضل مثال على ظاهرة تحول المضطهد (بفتح الهاء) إلى مضطهد (بكسرها). ولكن «المؤسسة» الإسرائيلية الحاكمة منذ عام 1948، وبغض النظر عن هويتها الحزبية، لم تشعر يوما بأي حرج في الإعراب عن تفضيلها لهجرة اليهود الغربيين (الإشكنازيم) إليها على الشرقيين (ألسفرديم). وهذا التفضيل كان سياسة «مؤسس» الدولة ديفيد بن غوريون ووصيته قبل وفاته. وقد ينفع التذكير بأنه يوم بدأ يهود الدول العربية يتوافدون على «أرض الميعاد» في أوائل خمسينات القرن الماضي، احتضنتهم المؤسسة الحاكمة، إلى حين، كأشقاء يهود «ضائعين».. لتعود بعد ذلك إلى التعامل معهم كأبناء مرتبة اجتماعية دون مرتبة مواطنيها اليهود الإشكنازيي الأصول.

وكذلك كان الأمر بالنسبة ليهود إثيوبيا «الفلاشا» الذين استقبلتهم إسرائيل بصفتهم أبناء القبيلة اليهودية «المفقودة» في القارة الأفريقية.. فما كادت حرارة الترحيب بهم تخبو حتى اكتشفوا أنهم معتبرين، رغم يهوديتهم، مواطنين من درجة ثانية، لا تتجاوز مواطنتهم العيش على هامش المجتمع الإسرائيلي «الأبيض».

هل كان يهود العالم بحاجة إلى ستة عقود من عهد «الدولة القومية» ليكتشفوا أن الدين – وحده – أعجز من أن يجمع شتاتا متنوع الأعراق والجنسيات على سطح واحد؟

الاعتراف بهذا الأمر ليس واردا طالما أن من شأنه نسف أسس آيديولوجية تيودور هرتزل الصهيونية واستطرادا علة وجود إسرائيل. ولكن قد ينفع التذكير بأن الكيان الإسرائيلي الحالي، بواقعيه الجغرافي والديموغرافي، يضم مجتمعا تعدديا على كل الأصعدة الدينية والعرقية والعنصرية، مما يعني أن سعي رئيس حكومته، بنيامين نتنياهو، لإعلان إسرائيل «دولة يهودية» خالصة، لا يجافي الواقع فحسب، بل يتجاهل أبسط معطيات الديمقراطية التي يحلو للمؤسسة الإسرائيلية التبجح بتمثيلها «حصرا» في الشرق الأوسط.