إذا حلّوا

TT

كان الدكتور محمد أحمد محجوب سياسيا وشاعرا وأديبا ورجل صدق. حضرت مجالسه مع صديقه سعيد فريحة، فكانا إذا اجتمعا حل الظرف ثالثا، وكان محجوب، وقبله سودانيون كثيرون، يحاولون تقليد غاندي ونهرو في النضال من أجل الاستقلال عما كان يسمى الحكم البريطاني - المصري، وهو في الحقيقة لم يكن سوى استعمار بريطاني، كما كان يقول محجوب.

مثل نهرو، الذي أمضى في سجون بريطانيا زهاء ثلث قرن، كان محجوب يؤمن بأنه لا بد من الاحتفاظ ببعض المزايا الاستعمارية، خصوصا في الإدارة والتنظيم وتطبيق القانون. ولما زاره الوزير جان عبيد في الخرطوم، وهو رئيس للوزراء، كان يقود سيارته بنفسه ويتوقف، مثل جميع الآخرين عند الضوء الأحمر، بعد منتصف الليل. ولما أبدى عبيد، القادم من لبنان، إعجابه بذلك، قال مضيفه: هذا ما ورثناه عن الإنجليز.

كان محمد أحمد محجوب حفيدا لجدين من كبار قادة جيش المهدي، وقد قتل كلاهما في المعارك مع البريطانيين، وفي النهاية حصل السودان على الاستقلال بعد نضال بدأ منتصف القرن التاسع عشر ودام نحو القرن، وكان مناضلوه الرئيسيون من المهديين والختميين.

حاول الحكم الاستقلالي البحث عن موارد في بلد مساحته مليون ونصف مليون كيلومتر مربع. أدركوا باكرا أهمية بلدهم في أفريقيا وعرفوا أن القارة سوف تلحق بالركب الاستقلالي سريعا.

حاول إسماعيل الأزهري ومن معه إنشاء حكم مدني يحتضن ويستوعب القبائل المتناثرة في الصحاري والغابات. وعرف الاستقلاليون أن المسألة لن تكون يسيرة لكنها غير مستحيلة. بعد رحلة قصيرة مع البناء، أطل العسكريون بالدبابات والمدافع.

يقول محجوب في كتابه «الديمقراطية في الميزان» (دار «النهار») «إن العسكريين يؤكدون جميعا حين يستولون على الحكم بالرصاص أو الخراب، أن هدفهم استئصال الجشع والفساد، ويتعهدون بإرجاع الحكم إلى المدنيين بأسرع وقت ممكن، لكن ما إن يتذوقوا السلطة حتى يشتد ولعهم بها، فيسعون إلى البقاء في الحكم مهما تكن النتائج بالنسبة إلى اقتصاد بلدهم. يؤممون الملكية الخاصة بالقوة، ويسلمون الإدارة المدربة في القطاع الخاص إلى محازبين جاهلين أو إلى ضباط الجيش، وتكون النتيجة، من دون أي نتائج ملحوظة، خرابا في القطاع الخاص وحالة من الإفلاس للشعب. أثبتت خبرتي بالجنرالات أولا في 1961 ثم بالعقداء، أن حكمهم أسوأ أنواع النظام الفاشستي».

لم يعش الشاعر العربي ليرى كيف استكمل العسكريون مسيرتهم في العالم العربي. كانت «الديمقراطية في الميزان» فجعلوا الأمة في الميزان.