كوابيس ثورية من سوريا إلى ليبيا!

TT

في حال استمرت المأساة - الملهاة السورية على النحو الذي هو حاصل للشهر الرابع عشر على التوالي، بافتراض أن التخريجة اليمنية لإخراج الرئيس بشار الأسد من الرئاسة ومن البلد، والمطروحة بجدية أميركيا - روسيا - صينيا، لم تتحقق، فإن الذي سيصيب السوريين هو تماما ما أصاب العراقيين، وما سبق أن أصاب اللبنانيين من قبل. ستفقد الدولة هيبتها. وسيحزم المقتدرون حقائبهم متوجهين إلى أمكنة تستقبلهم وبأقسى شروط في ديار الله الواسعة. ومن هو ليس مقتدرا فسينام على الضيم وسيتشتت شمل الأسرة. وستنعكس الآية شيئا فشيئا بحيث يزهق الحق ليأتي الباطل. وفي القليل من الاستحضار للذي جرى في لبنان وجرى في العراق ويجري الآن في سوريا يتأكد لنا كم أن لغة العقل معطلة وكم أن الشغف بالانتقام في خط بياني متصاعد!

ويحزن المرء كثير الحزن عندما يرى أن لا أحد يتعظ ويفضل غريزة الانتقام بأنواعه تعذيبا في الزنازين (وبالذات في سوريا والعراق) أو تهميشا بصيغة الاجتثاث، أو إبادة باردة، على فضيلة التراحم والتسامح. وعندما نسمع شكاوى البعض مما يصيبه من جراء قوانين ظاهرها إصلاح الحال لكن باطنها الانتقام وأحيانا الحسد من النجاح، فإننا نقول بصيغة التساؤل: لماذا لا يستحضر واضعو هذه القوانين - استنسابا أو اجتهادا أو تنفيذا لأوامر من سلطات أعلى لا تحبذ المناقشة وإنما التجاوب الفوري - القول المأثور للإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار»؟! وعندما لا يستحضر هؤلاء ذلك القول وأقوالا أخرى تتسم بالتعقل والحكمة والنصيحة فلأنهم مبتلون بغرائز الانتقام لا أكثر.

وهنالك من الوقائع والحالات المتعلقة بإجراءات وقوانين جائرة الكثير. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن بعض القوانين التي أصدرتها ثورة 23 يوليو 1952 وقضت بتأميم أراضي عدد من المصريين بذريعة أنهم إقطاعيون كانت متسرعة وأسست لحالة من التوتر الاجتماعي والعداوة غير المعلنة بين طبقة وطبقات. ولو كانت الخطوة متأنية لما كان العهدان التاليان لعهد عبد الناصر، ونعني بهما عهد السادات ثم عهد مبارك، وظفا الإلغاء النسبي والمتدرج للتأميمات من أجل خدمة عهديهما. وهنا نرى أن التوتر الاجتماعي والعداوة غير المعلنة بين من استعادوا الأموال والمصانع والممتلكات وبين الذين سبق أن نالوا مكاسب من التأميمات قد حصل أيضا. وهذا مؤشر إلى أن ما اعتبره عهد التأميمات علاجا اجتماعيا لم يخرج عن كونه في بعض جوانبه إجراءات تعكس مشاعر انتقامية من جانب الذين لا يملكون ضد الذين يملكون. وبعد الذي حدث في زمن الوحدة المصرية - السورية وكيف أن إجراءات التأميم تفاعلت وانتهت إلى أنها شكلت واحدا من موجبات الانقضاض على تجربة الوحدة وإفشالها أسوأ إفشال، بات واضحا كم أن التأميم والحجر السياسي على ألوف الأشخاص كانا في جانب منهما خطوة على طريق الانتقام وليس فقط الإنصاف الاجتماعي لشرائح عريضة من الناس. وعندما لجأت الثورة الجزائرية إلى التأميم تقليدا لمصر الناصرية وليس لضرورات اعتماد هذا النهج، فإنها بما فعلته وكيف أن التأميمات شملت صالونات حلاقة على حد قول شهود من تلك المرحلة، جعلت شرائح من الجزائريين ينفرون من الحالة الثورية الجديدة.

وما هو أخطر من التأميمات بالنسبة إلى الألفة المجتمعية، يتجسد في إقدام عهود مستجدة على حذف الألوف من عهود سابقة. في العراق أدخلوا مفردة «الاجتثاث» فباتت حال المجتث مثل حال الزنجي في أميركا الأربعينات والخمسينات. وفي مصر أدخلوا مفردة «الفلول» فباتت حال المفلول مثل حال الزنجي من أبناء جنوب أفريقيا وهم الأكثرية المنبوذة من الأقلية البيضاء، أو ربما مثل حال اليهود السود من فلاشة وغيرهم الذين يعاملهم البيض والشقر معاملة السيد للعبد. ومثل هذا الأمر سيقوض الأسس التي يقوم عليها العيش المشترك.

ويبدو أن إخواننا في ليبيا لا يريدون الأخذ بقاعدة «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار» مع أن المشهد في كل من مصر لجهة التأميمات والمصادرات والنبذ وفق تسمية «الفلول»، وفي العراق لجهة السلوك نفسه وتكريس الاجتثاث والتمثيل بمقامات سياسية سابقة وإلى درجة عدم تقدير الظروف الصحية لهؤلاء، بات كما لو أنه شريعة تكاد تشكل مادة في «دستور» من يحكمون مرادفا لدستور البلاد. وفي ضوء ما انتهت إليه الجولة الرئاسية الأولى فإن المرء يخشى أن يكون محمد مرسي «الإخواني» في موضوع «الفلول» وفي الأحكام المؤجل إصدارها إلى حين في حق مقامات سياسية ووطنية، في حال كان الترؤس من نصيبه في جولة الإعادة، أشد قسوة من نوري المالكي في موضوع «الاجتثاث»، وبالذات بالنسبة إلى الذين يموتون ببطء داخل الزنزانات.

وعندما نقول ما نقوله بالنسبة إلى رموز الحكم الجديد في ليبيا فلأن «المجلس الوطني الانتقالي المؤقت» فاجأنا قبل أيام بقانون فيه مسحة استنساخ عن إجراءات وقوانين سبق أن صدرت في مصر وفي العراق وفي الجزائر وفي سوريا وأنتجت عداوات وصراعات مجتمعية، فضلا عن أنها اتسمت بما يجوز اعتباره انتقاما أو حسدا أو الأمرين معا. وبموجب القانون المشار إليه والمسمى «قانون إدارة أموال وممتلكات بعض الأشخاص» وهم بالمئات حتى الآن «توضع تحت إدارة حارس عام أموال وممتلكات هؤلاء الأشخاص وكذلك أموال وممتلكات أزواج وأبناء الأشخاص الطبيعيين منهم، كما يجوز بقرار من مجلس الوزراء أن تضاف إلى هؤلاء أي أموال أو ممتلكات أخرى يرى لزوم خضوعها للحراسة، وكذلك إضافة بعض الأشخاص الموجودين في الخارج». كذلك يجوز ـ«الحارس العام» أن يبيع أموال وممتلكات وتصفية الأعمال الصناعية والتجارية لهؤلاء الأشخاص. كما ليس من حق هؤلاء الأشخاص رفع أي دعوى مدنية أو تجارية أمام المحاكم.. إلخ!

من حق العهد الجديد الذي يأتي بفعل انقلاب أو انتفاضة أو فورة يسميها القائمون بها «ثورة» أن يتخذ من الإجراءات والقوانين ما يؤكد فيها أنه سيصحح لأن العهد الذي انقضى كان على درجة من السوء والظلم. لكن في حال كانت الإجراءات والقوانين من النوع الذي يندرج ضمن صفة «الكوابيس الثورية» فإن الجديد يتساوى في هذه الحال مع الذي قبله. ومن خلال متابعة لأحوال البلاد والعباد على مدى نصف قرن من مصر إلى سوريا إلى العراق إلى السودان إلى الجزائر إلى ليبيا التي عاشت عقودا في ظل عهود ثورية، تتأكد لنا حالة الكوابيس التي صوروها على أنها أحلام. وبالنسبة إلى ليبيا بالذات فإن استنساخ إجراءات وقوانين بمفردات تثير الدهشة لن يخدم عملية التغيير المأمولة في الاتجاه الإيجابي، وخصوصا أن من بين المئات الذين شملهم قانون المصادرة رجال أعمال لم يسلموا من قساوة ظروف عاشوها في بعض سنوات ليبيا «القذافية» من بينها السجن ومصادرة الممتلكات ومنع السفر (رجل الأعمال حسني بي على سبيل المثال لا الحصر)، ثم ها هو العهد الجديد يفعل الشيء نفسه بدل أن يعزز دورهم في التنمية واستقرار الأسواق. كما أنه يفعل الشيء نفسه مع رموز ذات حضور لافت في الأمة أمثال رجل القانون والمفكر الإسلامي المستنير الدكتور إبراهيم الغويل.

ويبقى القول إن التغيير الصحيح هو التغيير الذي ينصف ويعيد الحقوق إلى المسلوبة منهم. أما إذا كان سيأخذ صفة «الكوابيس الثورية»، فإنه عند ذلك يكتسب صفة الانتقام والحسد. وقى الله الأمة من شر الحاسد إذا حسد، ومن مزاج الحاكم إذا هو اتخذ من الإجراءات واستصدر من القوانين ما يجعل رقعة الظلم تتسع ومساحة الإنصاف تنحسر.. وأمنية تثبيت الاستقرار تتباعد.