ميوعة المواقف العربية والدولية سبب تماسك حكم العائلة الأسدية!

TT

ليس بعد مرور أربعة عشر شهرا وإنما منذ بدايات انطلاق الثورة السورية المتعاظمة، فإن ما بقي مثيرا للاستغراب هو بقاء بنية نظام الرئيس السوري بشار الأسد متماسكة، وهو على الرغم من أن هذه المواجهات الدائرة الآن، والتي غدت تشمل البلاد كلها، باتت تأخذ طابعا طائفيا، للأسف، فإنه لم ينشق عن هذا النظام أي من زعاماته وأعمدته الرئيسية على غرار ما حدث في ليبيا تحديدا حيث إنه بمجرد انطلاق شرارة الثورة في بنغازي بدأ عدد من رجال معمر القذافي يتخلون عنه، إن على صعيد كبار العسكريين أو على صعيد السفراء، ومن بين هؤلاء مندوب «الجماهيرية»، التي ذهبت ولن تعود، لدى الأمم المتحدة.

حتى صدام حسين عندما بدأت تدور به الدوائر بادر بعض سفرائه إلى التخلي عنه والقفز من سفينته «الغارقة». والمعروف أن معظم رموز العهد البورقيبي في تونس، والذين كان زين العابدين قد ركلهم بالأقدام وأذاقهم الأمرين، قد بادروا إلى تصدر موجة الثورة التي كانت في البدايات انتفاضة شعبية آنية من دون تخطيط مسبق، وهذا ينطبق على اتحاد الشغل الذي كان ولا يزال قوة رئيسية في البلاد بقيت سابقا ولاحقا تفرض نفسها على الحياة السياسية هناك وبقيت لها كلمتها المسموعة حتى في أشد مراحل حكم الرئيس السابق قسوة وديكتاتورية.

هذا في ليبيا وفي تونس.. أما في مصر، التي هي دولة مؤسسات، فإن المعروف أن ما حسم الأمور بسرعة هو أن القوات المسلحة لم تتردد في الانحياز إلى انتفاضة شبان ميدان التحرير وحمايتها، بل إن ما من المفترض أنه لا جدال فيه هو أن الجيش المصري قد بادر إلى حسم الأمور بسرعة كي لا تأخذ الأحداث أبعادا خطيرة، وقد بادر إلى إلزام حسني مبارك، رغم أنفه ورغم أنوف رموز عائلته وكبار المحيطين به من قادة حزبه الحاكم وقادة الدولة، بالاستقالة والتخلي عن حكم بقي فيه لأكثر من ثلاثين عاما وبقي يعض عليه بالنواجذ طوال هذه الفترة الطويلة.

أما بالنسبة لنظام بشار الأسد، فرغم شعور غالبية الشعب السوري بأنه يستهدف فئة محددة معينة ومعروفة من هذا الشعب على غرار ما فعله والده في حماه عام 1982، ورغم أنه استخدم قسوة لم تستخدم في ليبيا ولا في تونس ولا في مصر، التي حمت قواتها المسلحة ثورة شبان ميدان التحرير من عنف الأجهزة الأمنية، فإن الانشقاق في البنية المدنية للنظام بقي محصورا في حالات ثانوية وهامشية جدا، وقد اقتصر على مجرد وكيل وزارة، وعلى عضو واحد من مجلس الشعب، وعلى عدد قليل من كبار الموظفين ليس من بينهم أي سفير ولا أي مسؤول من الذين يحتلون مواقع مؤثرة في مفاصل الدولة وفي المحطات القيادية في الحزب الحاكم.

فما هو سبب هذا يا ترى؟.. ولماذا تماسك هذا النظام كل هذا التماسك رغم طول الفترة منذ انفجار الانتفاضة الشعبية في الخامس عشر من مارس (آذار) عام 2011 وحتى الآن؟!

بداية، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن بنية هذا النظام السوري تختلف اختلافا عن بنية النظام الليبي السابق، وعن بنية نظام زين العابدين بن علي، ونظام حسني مبارك أيضا، فالرئيس السابق حافظ الأسد أورث ابنه بشار نظاما عائليا إن من جهة الأب أو من جهة الأم يمسك بالمفاصل الرئيسية للدولة، العسكرية والمدنية والحزبية، بقبضة من حديد، ونظاما طائفيا، وهذا أصبح، بعدما حدث كل هذا الذي حدث، يهيمن على كل شيء، وبخاصة في الجيش ووحدات النخبة فيه وفي الأجهزة الأمنية التي وصل عددها قبل اندلاع هذه الأحداث إلى أكثر من سبعة عشر جهازا، أهمها وأشدها قسوة وأكثرها بطشا جهاز الاستخبارات العسكرية الذي كان أسسه محمد الخولي ليضمن ولاء الجيش وليصفيه من باقي من تبقوا ممن يسمون ضباط صلاح جديد ومحمد عمران، لكنه بعدما قام بهذه المهمة خير قيام امتد من خلال خلاياه السرطانية ليهيمن على الحياة المدنية وليتغلغل في كل شيء في البلاد، بما في ذلك الجوانب التجارية والاقتصادية.

لقد تمكن حافظ الأسد، بعد انقلابه على رفاقه في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 وعلى مدى نحو ثلاثين عاما، من إقامة نظام قمعي «إسبارطي» بكل معنى الكلمة، تمدد بدءا من منتصف سبعينات القرن الماضي إلى لبنان تحت عنوان «قوات الردع العربية»، وبهذا فإنه تمكن من تدمير ما تبقى من الحياة السياسية والحزبية في سوريا، ولهذا فقد جاءت انتفاضة مارس عام 2011 عفوية، ومن دون تخطيط مسبق، ومن دون قيادة وطنية تمثل البلاد كلها وتسيطر على كل شيء، ومن دون قائد يجمع عليه الناس كلهم، ومن دون أي تنظيم فاعل له اتصالات سرية حتى مع بعض من ينطبق عليهم مصطلح المؤلفة قلوبهم.

حتى هذا المجلس الوطني فإنه لم يظهر إلا بعد نحو ثلاثة شهور من انطلاق شرارة هذه الانتفاضة التي غدت تعم البلاد وغدا لها جيش باسل هو الجيش السوري الحر، وهو بسبب عدم الخبرة، وبسبب انعدام التجارب، ونتيجة استمرار النظام من خلال أجهزته الاستخبارية الرهيبة في تدمير الحياة الحزبية السياسية لسنوات طويلة، لم يستطع أن يلملم شمل المعارضين بالسرعة المفترضة، ولم يتمكن من استيعاب كل المجموعات الصغيرة التي ظهرت بعد الخامس عشر من مارس عام 2011، ولهذا فإنه بقي غير قادر على استقطاب بعض رموز الدولة وبعض قادة النظام من غير الحلقة العائلية المغلقة، وبقي مشغولا بنفسه، ولم يشكل حالة مغرية لانشقاق بعض رموز هذا النظام عن نظامهم.

إلى أن بدأت هذه الانتفاضة الباسلة التي أيقظت الشعب من سبات عميق طويل كانت سوريا قد حولها نظام عائلة الأسد إلى صحراء بلقع مقفرة، لا حياة سياسية فيها ولا حزبية، وكل هذا وقد تحول الجهاز الحكومي بكل ما فيه إلى مجرد آلة عمياء لا ترى في الوجود كله إلا هذا النظام الذي لم يعد يشبهه في هذا الكون كله إلا نظام كيم يونغ إيل العائلي في كوريا الشمالية. ولذلك فإن الأنموذج الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار لجهة تعامل بشار الأسد والأجهزة الأمنية المتعددة التي ورثها عن والده مع رجالات دولته هو منع وزير الإعلام السابق أحمد سليمان من السفر وإعادته، ربما، إلى الاعتقال المنزلي من المطار. وهنا، وهذه شهادة حق، فإن هذا الرجل يستحق الاحترام والتقدير لأسباب كثيرة، من بينها أنه عندما كان في مواقع المسؤولية كان يتفهم كل صاحب رأي معارض ومخالف، وأنه كان قد بذل جهودا يشكر عليها في إعادة بعض المثقفين الذين اضطروا لمغادرة وطنهم بعد انقلاب حافظ الأسد، ومن بين هؤلاء الروائي الكبير حيدر حيدر.

لا يستطيع أي مسؤول - منذ بدء الانشقاقات التي غدت تؤثر في الجيش بل منذ بداية انتفاضة مارس عام 2011 - مغادرة البلاد إلا بإذن مسبق، ولا يستطيع أي مسؤول أن يتحرك أو أن يقوم بزيارة لأهله في مسقط رأسه من دون حراسة مشددة بحجة الخوف من «الإرهابيين».. وقد صدرت تعليمات مشددة بضرورة أن يقدم كل من هو في موقع مسؤولية تقريرا يوميا عن زملائه، كما كل أعضاء السلك الدبلوماسي في الخارج، وإخبارهم بأن قيامهم بأي حركة معادية للنظام إن بالقول أو بالفعل سيكون ثمنها تعريض أقاربهم وعائلاتهم للعقوبات الشديدة - وهذا حصل مع كثيرين لمجرد الشك في أن لديهم نوايا «سيئة».

ويبقى هنا أن ما يجعل بنية النظام متماسكة على هذا النحو الذي يبعث على الاستغراب هو أنه لا توجد أي قناعة لدى رموز هذا النظام من وزراء وسفراء وقادة حزبيين بأن الولايات المتحدة، ومعها الدول الغربية كلها، تريد فعلا إسقاط هذا النظام، كما أنه لا توجد قناعة لدى هؤلاء بإمكانية وقوع انقلاب عسكري ضد بشار الأسد، لأن كل الجيش السوري، بكل قطاعاته، قد جرى عزله وتجريده من الأسلحة، وبقي الاعتماد على القطاعات «النقية» عائليا وطائفيا، مثل الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري. لكن رغم هذا كله فإنه ستأتي اللحظة، وهي باتت قريبة جدا، التي سينهار فيها هذا النظام كانهيار بناية كرتونية، وعندها فإن كل هؤلاء الأعوان والرموز سيبادرون إلى القفز وإعطاء أجسادهم للأمواج هربا من سفينة هذه العائلة الأسدية.