الأسد: حبال النجاة وحبال المشانق

TT

ربما كان مملا للمثقف والواعي تكرار حقيقة أن المصالح هي التي تدير السياسة، والمبادئ والآيديولوجيات يتم توظيفها لهذه الغاية، ولكنه تكرار مفيد لكثير من الناس الذين لم يتشكل لديهم الوعي الكافي ببدهية كهذه، فكثير من المشاهير الذين يشاركون في الشأن العام لا يدركون ذلك فضلا عن عامة الناس، ولذلك حين تجيش بهم العواطف الدينية أو الاجتماعية أو الإنسانية تجاه حدث مأساوي ما تغيب هذه البدهية عنهم بسهولة، فحسابات السياسة أعقد من تعاطف واعظ أو جموح فنان.

من هنا فإن التشبث الروسي/ الصيني بالدفاع عن نظام الأسد الغاشم بسوريا يأتي من هذه البدهية الأولية، فلا شيء لدى الدولتين العظميين تخسرانه بمساندتهما للأسد، لكنهما ستخسران الكثير بلغة المصالح حين تتخليان عنه، وبغض النظر عن صدقية هذه الرؤية، فإن الدولتين العظميين تنطلقان منها.

ثمة تساؤل يجب أن يطرح؛ أليس للأحداث المأساوية الكبرى كالمجازر أي دور في التأثير على السياسة؟ والجواب هو بالتأكيد نعم، فهذه المجازر يتم تحويلها بوعي لدى السياسي إلى مصالح تخدم رؤيته وتوجهاته، ولهذا شواهد في التاريخ الحديث والمعاصر، وهو ما يجب فعله تجاه مجازر الأسد المستمرة في الحولة ودير الزور وحمص وغيرها، بمعنى أن يتم تحويل هذه المجازر لرصيد سياسي يستفيد منه المجلس الوطني السوري كما الجيش السوري الحر.

طرد الدبلوماسيين السوريين من بضع عشرة دولة حول العالم خطوة بالاتجاه الصحيح، وإن جاءت متأخرة في سبيل عزل نظام الأسد سياسيا، وهي ما يجب أن تتبعها خطوات أخرى، ويجب أن يكون الانطلاق من إعلان صريح للمبعوث الدولي والعربي أنان بأن مشروعه قد فشل، فمن غير المعقول أن يتحول دور المراقبين الدوليين من سحب الجيش من المدن والقرى ووقف العنف إلى مجرد إحصاء رقمي لعدد الضحايا والجثث من المدنيين دون أي تأثير سياسي.

النظام الأسدي (وكما تبين جميع تصرفاته) عازم على أخذ البلاد للحرب الأهلية والفوضى، وهو يسعى من جراء استمراره في العنف الدموي الشامل أن يخلق حالة من الاحتراب الداخلي يأمل من خلالها أن يستطيع الاحتفاظ ولو بمنطقة صغيرة من سوريا حيث اللاذقية وجبال العلويين المحيطة بها (حسب التسميات الحديثة)، وأن يحصل على دعم دولي لخلق مثل هذا الكيان الهزيل تحت ستار حماية الأقليات الذي يعلم قوة تأثيره غربيا، ويستحضر في ذاكرته قيام مثل هذا الكيان في التاريخ الحديث.

إن «حماية الأقليات» فكرة غربية حديثة وصحيحة، ولكنها بكل الأحوال لا تنطبق على النظام الأسدي ولا على أوضاع سوريا اليوم. إن ما يجري في سوريا هو عنف الدولة الغاشم الذي تقوم به عائلة تحتمي وتوظف أقلية طائفية لقمع الأكثرية من شتى التوجهات، والواجب اليوم هو حماية الشعب بكل طوائفه وشرائحه من بطش النظام، وتمكينه من الدفاع عن نفسه.

خطة أنان قد فشلت، والذهاب لمجلس الأمن لن يجدي شيئا مع وجود الفيتو الروسي/ الصيني، فلم يبق إلا التوجه لإسقاط هذا النظام خارج مجلس الأمن، وهو ما سمته المندوبة الأميركية الأممية سوزان رايس بـ«الطريق الثالث»، وأي تأخير في التوجه نحو هذا الطريق الثالث سيخلف آثارا لا تمحى في الذاكرة السورية، وسيكون له آثار أقوى في مستقبل سوريا السياسي، بل ومستقبل المنطقة برمتها.

لا تزال التيارات المدنية في سوريا، بقيادة المجلس الوطني، تسعى جهدها الجهيد للمحافظة على الطبيعة المدنية للتصدي لنظام الأسد، والمجلس مصيب حين أعلن حربا للتحرير ضد النظام، وهي الحرب التي يجب أن يدعمها الغرب ودول العالم الحريصة على السلام في المنطقة، فمن دون إسقاط هذا النظام المستمر في غيه السياسي والعسكري والطائفي ستنبعث في سوريا كل المشكلات المزمنة عربيا حيث الطائفية والإثنية والقبلية والإسلام السياسي بل والقاعدة، مما يعني خروج تنظيمات مسلحة من كل شكل ولون، كل واحدة تمثل عاهة من العاهات السابقة.

ربما لا يحبذ البعض الحديث عن مثل هذه المعطيات التاريخية في هذا الوقت، ولكنني أحسب أن من الجيد استحضارها والوعي بها منذ الآن حتى يكون صانع القرار والمراقب، الدولي والعربي، على بينة من أمره حين يتخذ أي قرار.

معلوم أن إيران - التي يراها الأسد أحد حبال النجاة - لم ولن تألو جهدا في دعم الأسد بكل ما تمتلكه من مفردات القوة، ولئن كانت إيران قادرة على تصدير خبرتها في القمع بما تشمله من توسيع أجهزة البطش العسكري والأمني، وعبر القيام بعمليات دموية تروج لها لنشر الرعب بين المواطنين، فإنها غير قادرة أن تجعل من سوريا إيران أخرى، فالفوارق متعددة والبون شاسع.

وبعيدا عن استحضار العمق التاريخي والحضاري، والقدرة والمكانة، وطبيعة التركيبة السكانية، فإن إيران الثورة، وكمثال واحد، تمتلك منذ قيامها مشاريع كبرى كالحرب مع العراق أو المشروع النووي أو النفوذ الإقليمي، وهي مشاريع تحتمي بها وتأرز إليها دائما عند تفاقم المشكلات الداخلية، أما نظام الأسد فلا يمتلك شيئا من هذا وحتى لو اعتبرنا توفير الحماية لإسرائيل مشروعا خارجيا للأسد، فإنه لا يستطيع الاعتماد عليه للهرب من أزمته الداخلية الكبرى.

إن الأسد يفكر في حبال النجاة المتاحة أمامه، فيجدها دوليا في الدعم الروسي/ الصيني، وإقليميا في إيران وأتباعها في العراق، أما داخليا فيعتمد على جيش وقوات مسلحة تمت صناعتها برؤية طائفية أقلية على يدي والده حافظ الأسد، الذي كان يستحضر في ذهنه بناء «القوات الخاصة للشرق الأدنى» التي أنشأها الفرنسيون 1921 من الأقليات، وعلى رأسهم العلويون، خاصة وقد «أدت الخدمة العسكرية مع الفرنسيين إلى تأسيس بدايات تقليد عسكري علوي أصبح مركزيا في صعود الطائفة اللاحق»، كما ذكر باتريك سيل، كاتب «السيرة التبجيلية لحافظ الأسد» ص37، وهو ما سبق أن فصله قبله نيقولاوس فان دام في كتابه المهم «الصراع على السلطة في سوريا».

أخيرا، فإن السياسة وإن كانت مصالح دائما فإنها تتعامل مع معطيات راسخة ومتغيرات دائمة تتطلب فهما ووعيا يمكّن من توظيفها في السياسة. الأكيد هو أنه في لحظة ما (لم تعد بعيدة) ستتلاشى التفاصيل الصغيرة وستبقى الحقائق الكبرى، وأن حبال النجاة قد تصبح حبال مشانق.