سوريا وهذا الإصرار على الحسم الأمني!

TT

نقطتان يمكن الاستناد إليهما في تفسير إصرار النظام السوري على الخيار الأمني والعسكري بعد أكثر من أربعة عشر شهرا على انطلاق الثورة وعجزه عن إخماد الحراك الشعبي، أو التخفيف من حدة الأزمة المتفاقمة، بما هو إصرار وتصميم على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه عبر سحق الاحتجاجات بالقمع والعنف العاريين، واستخدام كل أشكال الفتك والتنكيل وبلا حساب، لإخراج الشعب من السياسة وتثبيت حالة الخوف والرعب التقليدية في المجتمع!

النقطة الأولى، تتعلق بالبنية والطابع التكويني لهذا النوع من الأنظمة المعجونة بتاريخ طويل من القهر والغلبة، وبمنطق خاص في فهم السلطة والمسؤولية، جوهره ليس التنافس الصحي لاختيار الأفضل في إدارة المجتمع والأكثر كفاية للتعبير عن مصالح فئاته وتكويناته المتعددة، بل مبدأ القوة والجبروت ووسائل القمع والإرهاب، ما كرس عجزا مزمنا لدى السلطات في تعديل طرائق الهيمنة، حتى لو اضطرت إلى ذلك، لأنها تخشى من الانفتاح على المجتمع وتتحسب من المناخات السياسية، ومن القيام بأي مبادرة أو تنازلات جدية، ولأن لديها وفرة من التجارب تعزز ثقتها بأن العمل المجدي لدوام السيطرة ليس الاستجابة لمطالب الناس ومعالجة مشكلاتهم، بل الاستمرار في إرهابهم وشل دورهم، ربطا بسوء تقدير، ولنقل تضخيم للذات، والاعتقاد بأن ما كرس من قوى يشكل مدماكا راسخا لا يمكن بأي حال زعزعته، وهو قادر على سحق كل من يقف في طريقه!

ويزيد الطين بلة قوة لوبي الفساد المنتشر في مختلف المؤسسات، وتشبثه بمصالح وامتيازات لا يريد التنازل عنها أو عن بعضها حتى لو كان الطوفان، ثم شعور أصحاب الحل الأمني بأنهم وبعد ما اقترفته أياديهم قد وصلوا إلى نقطة اللاعودة، وأنهم يخوضون معركة حياة وموت يرتبط وجودهم ومستقبلهم بنتائجها، خاصة أولئك الذين أوغلوا في ارتكاباتهم ويخشون ساعة الحساب! الأمر الذي يفسر هذا التنافس المرعب في القمع والتنكيل بين أجهزة أمنية متعددة، يطلق كل منها مخيلته لابتكار أي جديد لم يجرب من شأنه إرهاب البشر، فإلى جانب الإفراط في استخدام القوة والعنف لإشعار جموع المتظاهرين بلا جدوى ما يقومون به وأنه ضرب من المحال تجاوز الحالة القائمة وتغيير الأوضاع، هناك التفنن في إرهاق الناس واستنزاف قوتهم وقدرتهم على الاستمرار، عبر تصعيد الاعتقالات الواسعة والعشوائية والحصار المزمن لبعض المناطق والأحياء والضغط على حاجاتها وخدماتها وشروط معيشتها، وأيضا توظيف ما يحصل من تفجيرات لتعميم حالة الرعب من أي حركة أو تجوال، وإشاعة أجواء اللامسؤولية وتغييب المحاسبة كضوء أخضر للآلة القمعية كي تتصرف على هواها، والأهم ترويج بعض الصور والحكايات عن فظاعة القمع والتنكيل دون اهتمام بالتشهير الإعلامي بقدر الاهتمام بوظيفتها في بث مزيد من الخوف والهلع في المجتمع وفي نفوس من لا يزالون مترددين في دخول الميدان والمشاركة!

النقطة الثانية ترجع إلى المناخ العام، إقليميا ودوليا، الذي يتسم بحالة من التردد والسلبية، ولنقل بردود فعل بطيئة ومائعة، لم ترقَ إلى مستوى الحدث السوري، لا بالزمن ولا بالمواقف، بالمقارنة مع سرعتها وقوتها تجاه الأحداث العربية الأخرى، الأمر الذي منح المؤمنين بالحسم الأمني مزيدا من الوقت لتجريب قوتهم وأدوات قهرهم، وهامشا واسعا للتوغل في العنف أكثر، إن لجهة حجم القوة المستخدمة وتنوعها أو لجهة الزمن والفرص! ولنقل شجعهم على استباحة كل شيء وممارسة أشنع وسائل القهر وأكثرها ضراوة وهم مطمئنون إلى أن ردود الفعل العربية والدولية لن تصل إلى المواجهة والردع، ولن تتجاوز حدود الإدانات والعقوبات الدبلوماسية والاقتصادية، بل وممتلئون ثقة بأنهم يتمتعون بحصانة كبيرة وبأن العالم، وقد أعلنوا عن ذلك مرارا، عاجز عن التوصل إلى موقف موحد للتدخل في سوريا ووضع حد للعنف المتمادي، ومستندون من تجربتهم إلى حقيقة أن للخارج مصالح يركض وراءها، وسيأتي إليهم صاغرا، طلبا لها، ما أن تحسم الأمور لهم، فهم الذين فكوا العزلة الطويلة بعد اغتيال الحريري، وفرضوا بخروجهم منتصرين على الآخر إعادة النظر بمواقفه، والأهم أن لديهم خارجا آخر قويا، روسيا وإيران وحلفائهما، يشاركهم المنطق ذاته، منطق القوة والغلبة، في طرائق الحضور والهيمنة، ويراهنون على دوره في تغطية أفعالهم واستمرارهم في القمع، ومن هذه القناة يمكن النظر إلى الموقف الروسي الذي لا يزال يعيق إصدار قرار أممي لوقف العنف وحماية المدنيين، وأيضا ما يشاع عن دعم اقتصادي وأمني ومالي كبير قدمته قوى عربية وإقليمية للنظام السوري، لتعزيز قدرته على المواجهة وتعويض ما خسره بسبب معركته المتزايدة الضراوة!

يبدو مع كل لحظة تمر أن الحل الأمني عاجز عن إخماد نار الحراك الشعبي، وأعجز عن إحداث التحول الذي تريده السلطة، فالقمع على شدته لم يعد يستطيع إخافة الناس، بل يوسع مناطق الاحتجاج ويزيد عدد المتظاهرين، مظهرا معادلة جديدة في المشهد السوري، بأنه كلما ازداد العنف ارتفع سقف المطالب واتسعت دائرة الاحتجاجات، ولا ينفع هنا تكرار التصريحات الرسمية بأن الأمور بخير وأن الأزمة انتهت، فالأمور في تفاقم مستمر، والأسباب السياسية للاحتجاجات الشعبية تزداد حضورا ووضوحا، كاشفة هشاشة التبريرات وزيف الذرائع المسوغة لاستمرار العنف، وكلمة انكشاف لا تعني ظهور أمر غامض أو جديد بقدر ما تعني انهيار القدرة الإعلامية السلطوية على التغطية والتمويه!

ويبقى السؤال، إلى متى يستمر هذا العناد الأعمى في المعالجة الأمنية والعسكرية، دون اهتمام بآثارها السلبية، وبأنها تفتح أبواب البلاد على المجهول، نحو انفلات الصراعات على غير هدى، واستدراج المزيد من العزلة والحصار والتدخلات الخارجية، والأهم ما سوف يتكبده النسيج المجتمعي ومستقبل الأجيال من أضرار فادحة، وفي المقابل ما حجم التضحيات المفترض أن تقدمها الثورة الناهضة كي تصل إلى تحطيم الطرائق الأمنية والذهنية القديمة التي تدار بها البلاد، والتي أورثتنا ما نكابده من قهر وفساد وآلام ودمار!