سحب الثقة

TT

بات المواطن العراقي أكثر سكان العالم سماعا للمصطلحات السياسية في التداول اليومي، وهذا ناجم عن أن المواطن العراقي، وبحكم أوضاع البلد منذ عقود طويلة، مدمن سماع أخبار، قد نكون أكثر شعوب الأرض حبا للأخبار لأنها تحدد مصيرنا، خبر قد يوقف حربا، وآخر قد تبدأ به حرب، ويمكننا القول إن بعضنا امتلك ما يمتلكه من معرفة وثقافة مصدرها الأساسي سماع الأخبار منذ عهد الراديو حتى عصر الفضائيات وما أكثرها.

وانتقلنا من ثقافة سماع الخبر إلى التحليل، تحول المواطن العراقي لأن يكون أكثر تحليلا من غيره في هذا العالم، لأن جلساتنا العادية والخاصة نتداول فيها شؤون السياسة التي تعد الطبق المفضل للجميع.

ومن المصطلحات التي بدأت تأخذ حيزها في السؤال والنقاش مصطلح «سحب الثقة»، وهو مصطلح جديد على مسامع المتلقي العراقي، لكنه موجود في الدستور العراقي لعام 2005.

وتوجد الآن كتل سياسية في العراق هي جزء مهم من الحكومة تحاول طرح سحب الثقة من الحكومة، وهذا يعني أننا بلد ديمقراطي ما دام دستورنا يسمح بسحب الثقة من الحكومة بمن فيها رئيس الوزراء، وعملية طرح سحب الثقة غير مخالفة للدستور مطلقا، وعدم مخالفتها يؤكد أن البلد لا يمكن أن تحكمه ديكتاتورية في يوم من الأيام، وهذا ما يجعل الشعب العراقي مطمئنا للحاضر والمستقبل، رغم أن البعض من السياسيين حاول تخويفنا من عودة عصر الديكتاتورية.

ولكن بسطاء الناس من الذين أدمنوا كما قلت سماع الأخبار منذ أيام الحرب مع إيران كانوا يسمعون بين ما يسمعونه، أن عملية سحب الثقة عادة ما تطرح من قبل المعارضة البرلمانية، لأن الديمقراطية كما نعرفها بقطبين: حكومة ومعارضة، والمعارضة تتصيد أخطاء الحكومة، وهذا واجبها وحقها الدستوري، وبين الحين والآخر تجرب هذا الحق وتطرح مشروع سحب الثقة، وعادة ما يفشل فتبقى المعارضة معارضة، وتظل الحكومة حكومة، أما إذا نجحت فتصبح المعارضة حكومة والحكومة معارضة.

ولكن ما يجري الآن هو أن الحكومة تطرح سحب الثقة من الحكومة! يبدو الأمر غريبا وبحاجة لأن نتوقف عنده، فمن يريد سحب الثقة من الحكومة الحالية؟ الجواب لا يحتاج لوقت وتفكير وجهد، فمن يطلب ذلك ليست المعارضة البرلمانية، بل جزء من الحكومة يطلب سحب الثقة، وبالتالي يمكننا القول إن هذا نمط جديد في الحياة السياسية يجب أن نتوقف عنده ونطرح عددا من الأسئلة لعل أهمها: في حين لو تم نجاح سحب الثقة، فمن سيشكل الحكومة؟ الجواب التقليدي والمعروف في الأدبيات الديمقراطية: سيشكلها زعيم المعارضة البرلمانية كما يفترض، ولكن هل لدينا معارضة برلمانية؟ بالتأكيد لا نمتلك معارضة برلمانية لأن الكتل الكبيرة في البرلمان موجودة في الحكومة وتشكل أكثر من 90 في المائة من مقاعد البرلمان، ولا يمكن أن تحجب الثقة عن نفسها بنفسها.

والسؤال الثاني، وهو الأكثر أهمية من الأول، ماذا لو فشل مشروع سحب الثقة ونال رئيس الوزراء وحكومته ثقة البرلمان من جديد؟ هل سنجد خروج الكتل صاحبة مشروع سحب الثقة لمقاعد المعارضة وإفساح المجال لتشكيل حكومة أغلبية سياسية؟ سؤال الإجابة عنه صعبة ولا يمكن أن يتكهن أحد بكيفية تفكير البعض ومدى قبولهم لأن يكونوا في مقاعد المعارضة.

وبالمناسبة، فإن مقاعد المعارضة ليست سلبية، بل بالعكس لأن حظوظ المعارضة البرلمانية أحيانا تكون أكثر من حظوظ الحكومة في كسب ود الشارع والرأي العام، ولكن لا أدري لماذا هناك في العراق عزوف عن مقاعدها من قبل الجميع؟

لهذا أجد أن طرح سحب الثقة من الحكومة ورقة ضغط ليس إلا، يحاول البعض استخدامها ويمنحنا نحن فرصة أن نضيف مصطلحا آخر لقاموسنا السياسي وفي الوقت نفسه يجعلنا أكثر اطمئنانا على مستقبلنا ما دام دستورنا فيه من صمامات الأمان ما يحمينا من عودة الديكتاتورية والانفراد في الحكم، رغم أننا مطمئنون لهذا، ولكن لا بأس بأن نزداد اطمئنانا.