مصر: الصندوق والقفص

TT

الصندوق والقفص وهم تملك من رؤوس المصريين بحثا عن شرعية لنظام انهارت شرعيته، وكانت ذروة الانهيار في الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) 2011، نظام فقدت مؤسساته ما تبقى لها من رصيد للشرعية، وفي البحث عن إجماع وطني جديد بدا للمصريين أن صندوق الانتخاب وقفص محاكمة مبارك هما أداتا إنتاج إجماع وطني جديد وشرعية جديدة، فلا نفع القفص ولا الصندوق، فلا الانتخابات الرئاسية ضيقت الهوة ولا محاكمة مبارك وقيادات نظامه أسهمت في رأب الصدع.

بل العكس هو ما حدث: الصندوق عمق انعدام الثقة، والقفص زاد من تمزق الوطن بعد أن برأت المحكمة كل قيادات أمن الدولة وأدوات البطش، ليخرج الناس في الشوارع مطالبين بالقصاص وبإعادة المحاكمة. مصر اليوم في ورطة ومعها الإقليم برمته؛ إذ فشلت مصر في تحقيق العدالة كما يراها الناس، وفشلت في إرضائهم من خلال الصندوق. الصندوق وضع مصر بين شقي رحى «الإخوان» ودولة العصور الوسطى وبين النظام القديم. والقفص أثبت للمصريين أنهم غير قادرين على إنتاج مؤسسات حديثة كالقضاء، إذ يبدو أن حكم مجلس عرفي في قبائل أفريقيا يستطيع استخدام العدالة بشكل أفضل. الهدف من القضاء هو الوصول إلى استقرار المجتمع من خلال إرضاء الحس المجتمعي العام بأن الجاني أخذ جزاء عمله؛ فإن أسهم القضاء في عدم الاستقرار والنزول إلى الشوارع هنا تفقد مؤسسات القضاء مبررات وجودها.

حتى تتضح الرؤية، والحديث هنا ليس عن مصر وحدها، لا بد أن نعي لماذا نحن في الورطة التي وجدنا أنفسنا فيها. البداية هي فشل الدولة الوطنية أو دولة ما بعد الاستعمار (وليست دولة ما بعد الاستقلال، كما ندعي، لأن الاستقلال لم يتحقق).. فشلت تلك الدولة في أول صفقة عقدتها مع مجتمعاتها. طلبت منا دولة ما بعد الاستعمار التخلي عن حقوقنا السياسية مقابل تحسين أوضاعنا الاقتصادية، وانتظرنا ستين عاما ولم نحصل على النمو الاقتصادي، حتى عندما حدث انفتاح في عهد السادات كانت فوائده محصورة في قلة، وتم عزل الأغلبية عن النفع الذي جاء مع الاستثمارات الأجنبية التي شملت تلك الشلة الصغيرة. بنينا دولة ما بعد الاستقلال أو ما بعد الاستعمار لمنفعة الأقلية على حساب الأغلبية؛ لذلك كان التذمر السياسي والاقتصادي، وصبرنا قليلا من أجل الشرف الوطني في عام 1967 وأخذنا علقة ساخنة من الإسرائيليين لم يأخذها «حمار في مطلع»، كما يقولون. وطالبوا الرئيس المهزوم بالعودة من أجل الشرف الوطني، وشربنا المر وتجرعنا المهانة بقية أيامنا من أجل تحقيق النصر في أكتوبر (تشرين الأول) 1973 واستعدنا الشرف الوطني، لكننا أيضا تكاثرنا وازدادت أعدادنا فأصبحنا 85 مليون مواطن نصفهم من العاطلين. النتيجة بعد الصبر والحروب كانت فقرا مدقعا، وصحة بائسة، وتعليما مخجلا. ولم يكن لنا من سبل الحداثة إلا أن نشاهدها في البلدان الأخرى عبر الشاشات أو أدوات التواصل الجديدة، مما زاد من الحنق والحقد معا.

وكان السؤال: ما هو الحل في هذه الورطة؟ وكانت الإجابة إسقاط النظام والنخبة التي فشلت في أن تؤدي ما وعدت به منذ الاستقلال أو منذ خروج الاستعمار. وجاءت 25 يناير 2011 لهدم دولة النخبة الفاشلة التي استعبدتنا باسم الوطنية.

المصريون اليوم فريقان: فريق يقول إذا كان الهدف هو تكسير كل البنى الفاشلة لدولة ما بعد الاستعمار فلا بد من التحالف مع قوى قادرة على الحشد والتكسير، وهي القوى الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. وإذا كان هذا هو طريقنا ومسلكنا فلا بد أن نصوت لمرشح «الإخوان» السيد محمد مرسي وجماعته. جماعة تعقد معنا صفقة جديدة ليست مثل صفقة عبد الناصر ورفاقه التي قايضت الحرية بالتنمية ولم نحصل لا على حرية ولا تنمية، بل صفقة من نوع جديد. لكن الورطة الحقيقية هي أن صفقة مرسي وجماعته ليست التخلي عن الحقوق السياسية مقابل التنمية في الدنيا، لا، بل هم يطلبون مقايضة حقوقنا السياسية بما سنربحه في الآخرة. أي سنساعدكم وتساعدوننا في الهدم مقابل أن تكون الجنة لكم في الآخرة والدولة لنا في الدنيا. وطبعا هذا فيل أبيض من النوع الإسلامي. خدعة أخرى ضمن سلسلة خدع التطور السياسي المصري. ولكن فريق من المصريين قبل وفريق عارض أو تشكك.

الفريق الثاني هو القائل بأنه إذا كانت تلك هي النتيجة فلا داعي للتحالف مع التيار الديني من أجل هدم القديم، ولا بد من البحث عن خيار أقل تكلفة وبأقل كمية من ألاعيب النصب والاحتيال. تلك هي المجموعة التي قررت أن تلجأ للصندوق وتؤيد الفريق أحمد شفيق. ومن وجهة نظر هؤلاء، أحمد شفيق لن يقايضهم بالجنة مقابل التنمية، بل سيكون رئيسا ضعيفا يعمل تحت ضغط الشارع؛ لأنه يريد أن يقول عنه الناس إنه من النظام القديم ومن الممكن أن يقدم لنا بعض التنازلات. ثم جاء الحكم على مبارك ودور القفص ليبطل ما سيقوم به الصندوق، فنتيجة المحاكمة كما تبدو اليوم في الشارع المصري هي تسليم رقبة مصر لجماعة الإخوان المسلمين. فبعد براءة أركان نظام مبارك، وخصوصا رجال أمن الدولة، ليس هناك من لا يتوقع بطشا انتقاميا إذا جاء أحمد شفيق، بل هناك من يقول إن شفيق لو جاء فسيعفو عن مبارك وعائلته.

إذن في جدلية الصندوق والقفص يبدو أن المجتمع المصري فشل في الوصول إلى أي نوع من الإجماع الوطني، وأن كل مؤسسات الدولة فيه متنازع على شرعيتها. إذن الرئيس المقبل سيكون منقوص الشرعية، كما أن مجلس الشعب الحالي تقريبا خال من الشرعية، كالطعام منزوع الدسم.

رئيس مصر المقبل يحتاج إلى بناء تحالفات معقدة من أجل الوصول إلى شرعية معقولة، تحالفات يصعب أن تحدث في مجتمعات لم تصل إلى الحداثة بعد. في هذا الجو من عدم القدرة على إنتاج شرعية تتخبط مصر ولسنوات ليست بالقليلة. عندما بدأنا الاستفتاء في مصر كتبت مقالا بعنوان «بالرجل الشمال نبدأ في مصر»، أما اليوم وبعد فشل الصندوق والقفص في إنتاج الشرعية، وبين رغبة شفيق في إعادة إنتاج مبارك ورغبة «الإخوان» في إعادة الخلافة، يبدو أن الجميع يعود إلى الخلف. ومن هنا نقول بلغة الجيش، مصر اليوم: للخلف در.