الدروس اليوغوسلافية المستفادة في التفكك الأوروبي

TT

يحكى أنه ذات يوم كان هناك اتحاد في أوروبا امتد من جبال الألب إلى البحر الأدرياتيكي وأزال الخط القديم الذي كان يفصل بين المسيحية الغربية وبيزنطة.

تعهد هذا الاتحاد بوضع نهاية أبدية للحروب التي أفسدت الشعوب المكونة للاتحاد على مدار التاريخ، وترسيخ مبادئ حسن النية والاعتماد المتبادل من خلال العملة الموحدة وحرية حركة العمالة ورأس المال.

وعن طريق دعم السلام والمساواة وحقوق الإنسان، قدم الاتحاد «بديلا ثالثا» لقسوة الرأسمالية على الطراز الأميركي وعدم كفاءة التخطيط المركزي، ومركز قوة بديل للبلدان التي لا ترضى باختيار حلفائها من بين الولايات المتحدة والصين وروسيا.

انهارت يوغوسلافيا في عام 1991، بعد أكثر من عقد من تصاعد الصراع، حيث ترتب على هذا الانهيار تجدد الحروب العرقية بصورة أكثر دموية من تلك الحروب التي حدثت في حقبة الحرب العالمية الثانية، وهي الحروب التي كان ينبغي للاتحاد الأوروبي، الذي قام في حقبة ما بعد الحرب، أن يمنع حدوثها.

لن أبالغ في ذكر أوجه التشابه بين يوغوسلافيا والاتحاد الأوروبي الذي يشهد اضطرابات في الوقت الراهن، حيث كانت «اشتراكية السوق» اليوغوسلافية أكثر استبدادا من الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية. وبعض النظر عن الأحاديث التي دارت حول «الأخوة والوحدة» داخل يوغوسلافيا، و«عدم الانحياز» خارجها، فالشيء الحقيقي الذي حافظ على وحدة يوغوسلافيا كان القبضة الحديدية للزعيم جوزيب بروز تيتو، الذي توفي في عام 1980 والذي خلفه عدد من الزعماء البيروقراطيين غير الأكفاء وغير المنتخبين.

أدت نهاية الصراع الأميركي - السوفياتي إلى تخفيف حالة التوتر التي سادت بين الشرق والغرب والتي ساعدت على إجبار الشعب اليوغوسلافي على البقاء معا، على الأقل كما كان يبدو من الخارج.

وكما أنني لن أبالغ في التشبيه بين يوغوسلافيا والاتحاد الأوروبي، فلن أقلل من أوجه الشبه أيضا، فمثل الاتحاد الأوروبي، كانت يوغوسلافيا تحاول باستمرار إصلاح الخصومات المتأصلة في المجتمع - بين الألبان والصرب، من جهة، والصرب والكروات من جهة أخرى. ساعدت مراوغات الزعماء وإعادة الصياغة المؤسسية والدستورية على إخفاء هذه الخصومات، ولكنها لم تضع لها نهاية على الإطلاق، على الرغم من أن كل القوميات اليوغوسلافية تقريبا كانت تتكلم نفس اللغة.

استخدم تيتو النمو الاقتصادي الذي يقود إلى زيادة الديون في جلب السلام في البلاد، ولكن عندما حان وقت استحقاق هذه الديون، أدت سياسة التقشف المالي إلى إضافة عامل سياسي آخر مثير للمشاكل في البلاد.

ولذا، لا تعتبر الأزمة التي تواجهها أوروبا في الوقت الحالي غير مسبوقة من كافة النواحي، حيث إنها ليست محض أزمة مالية أو اقتصادية. السؤال الأكثر عمقا الآن هو كيف - أو هل - يستطيع أي اتحاد متعدد الجنسيات أن يبقى على قيد الحياة في الأراضي الواقعة بين جبال الأورال والمحيط الأطلسي بعد فترة طويلة من انتهاء الحرب العالمية التي بررت وجوده في الأساس وبعد انتهاء الحرب الباردة التي ساعدت على استمراره؟ كيف يستطيع الاتحاد الأوروبي الهروب من مصير كافة الإمبراطوريات والاتحادات السابقة في التاريخ الأوروبي؟

وعندما ننظر إلى الأمر من هذه الزاوية، يبدو المأزق الذي تواجهه أوروبا صعبا بالتأكيد.

تسبب التنافس الدائر بين فرنسا وألمانيا في حدوث الكثير من الحروب وإراقة الدماء في القارة الأوروبية، والتي كانت الحرب العالمية الثانية أكثر هذه الحلقات شراسة. كان من المفترض أن يقوم الاتحاد الأوروبي بتوثيق العلاقات بين فرنسا وألمانيا الغربية (التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية) بصورة كبيرة، من الناحية الاقتصادية، حتى يصبح قيام حرب أخرى أمرا مستحيلا.

كان هذا المشروع نبيلا وذا جدوى كبيرة، ولكن اتضح في ما بعد أن مؤلفي سياسة الوحدة الأوروبية بالغوا في وضع حلول للمشكلة الأصلية، حيث كان بمقدورهم التوصل إلى سلام بين فرنسا وألمانيا من دون إعطاء إسبانيا وفنلندا حق الاعتراض على السياسات التي تؤثر على الشعبين الفرنسي والألماني، والعكس صحيح. وكان بمقدورهم أيضا إقامة تجارة حرة والسماح بحرية حركة رأس المال من دون الادعاء بأن اليونان وهولندا تنتميان إلى عملة الاتحاد.

هل قام الاتحاد الأوروبي بالتوسع بصورة مبالغ فيها بسبب رغبة فرنسا في خلق وسيلة لتحقيق طموحاتها غير الواقعية في مجال السياسية الخارجية، أم لأن البلدان الأكثر فقرا في القارة الأوروبية كانت شديدة الحرص على الوصول إلى الامتيازات المتمثلة في الأموال الألمانية؟ كل هذا لا يهم الآن.

ففي الواقع، تئن أوروبا تحت وطأة هذا الاتحاد، ولم تعد قادرة على سداد ديونه، سواء السياسية أو الاقتصادية.

تسيطر الجهود قصيرة الأجل التي يتم بذلها للتغلب على هذا المأزق على الساسة في القارة الأوروبية، ولكنهم يكافحون ضد قوى الطبيعة التي تتحول ضد الاتحاد الأوروبي، تماما مثلما قامت قوى مماثلة من قبل بسحق الإمبراطورية الرومانية المقدسة ويوغوسلافيا.

هناك خياران فقط أمام الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي، أولهما هو طريق الانفصال؛ فعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن يكون انهيار الاتحاد الأوروبي داميا مثلما حدث في يوغوسلافيا، سوف يؤدي هذا الانهيار، حتى لو حدث بصورة تدريجية، إلى إفقار القارة وترك رواسب سامة من الضغائن القومية.

أما الخيار الثاني، فهو بالطبع اتباع الوصفة الأبدية - ألا وهي «التمسك بالاتحاد الأوروبي بصورة أكبر»، حيث يقال إن الحل الوحيد للشكل الحالي الفضفاض للاتحاد الأوروبي هو اتحاد أكثر صرامة.

وما يعنيه هذا من الناحية العملية هو تسليم المزيد من السيادة الوطنية لمقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، بما يترتب عن ذلك من فقدان البرلمانات المنتخبة لسلطة إصدار القرارات المالية الأساسية للمرة الأولى في تاريخ الاتحاد.

لن يكون التخلي عن السلطة أمرا مناسبا، حيث ستقوم ألمانيا والدول الأخرى الغنية بتحديد قواعد اللعبة الجديدة، بينما تقوم الدول الغارقة في الديون باتباع هذه القواعد - من دون تذمر.

يبدو أن مستقبل أوروبا الموحدة، إن كان هناك مستقبل من الأساس، سيكون أكثر تقشفا وإثارة للجدل، وقبل كل شيء، أقل ديمقراطية من حاضرها. أحب أن أكرر أن هذا هو السيناريو المتفائل.

* خدمة «واشنطن بوست»