طبيب وفيلسوف

TT

لعل بعض القراء يتذكرون اسم الدكتور وسام قندلا. فكثيرا ما استشهدت ببعض حكاياته. طرق عيادته مؤخرا شخص، وقال للسكرتيرة: هناك رجل سقط على الرصيف، أخبري الدكتور لإسعافه. خرجت السكرتيرة لترى، وإذا بمن رأته مطروحا أمامها هو الدكتور وسام نفسه. فارق الحياة في طريقه لعيادته. ليس من المشجع أن يرى الإنسان طبيبه يموت بهذا الشكل وأمام عيادته، تصديقا لقول الشاعر: «طبيب يداوي الناس وهو عليل». خرجنا لتشييع جنازته من كنيسة اشفورد. ورحنا نتبادل بعض حكاياته.

كان الدكتور وسام قندلا من المتطوعين لمنظمة العفو الدولية، وظل في خدمتها حتى بعد مماته؛ فقد أوصى بمناشدتنا عدم وضع أكاليل زهور على قبره، ودفع ثمنها تبرعا لهذه المنظمة، وقد كانت تبعث به للبلاد العربية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان من الناحية الطبية.

قال لي يوما: يا أبو نايل اختراع «الفياغرا» حل لي مشكلة قديمة.. «أعوذ بالله وسام، أنت بعدك شاب وتحتاج لمنشطات (الفياغرا)؟!». قال: كلا، ليس لي والحمد لله. ولكن لبعض المسؤولين العرب. فقد كنت أعاني من مشكلة الهدايا لهم؛ أكثرهم يحصلون على ما يريدون. فماذا أحمل لهم من هدايا؟ ربطة عنق؟ قلم حبر؟ منديل حرير؟ هل هم بحاجة إليها؟ وهؤلاء القوم لا يقرأون. فمن العبث أن أهديهم آخر ما صدر من الكتب. كانت مشكلة. ولكن حبوب «الفياغرا» حلتها لي الآن. وكلّ حسب قدره. «يعني تقصد حسب عمره؟» قال: لا، حسب منصبه. إذا كان المسؤول بدرجة رفيعة أحمل له علبة من مائتي حبة فياغرا، وإذا كان مديرا أخفض العدد إلى مائة حبة. إذا كان مجرد موظف صغير، أكتفي بإهدائه علبة بعشرين حبة. فهؤلاء الناس لا يريدون أن يعترفوا بشيخوختهم أو عجزهم لطبيبهم ويفضحوا أنفسهم. يفضلون أن يحصلوا عليها هدية مني.

أضاف فقال: الكرم العربي كله خرافة. إنه مجرد مسألة مصلحة، أعرف ذلك من مراجعاتهم الطبية لي. عندما يأتي أحدهم لزيارتي وعنده مشكلة صحية يأتيني بهدية، والهدية دائما حسب خطورة المرض. إذا كان المرض سرطانا يأتيني بساعة ذهبية ثمينة. إذا كان مغص معدة يأتيني بربطة حرير. إذا كان يريد وصفة «فياغرا» للصيدلية يأتيني بعلبة شوكولاته صغيرة. وهكذا المحبة والهدية حسب المطلوب منك.

راجعته مؤخرا عاهرة محترفة طلبا لتزويدها بتقرير طبي لغرض العمل خادمة في إحدى المؤسسات. استغرب من طلبها؛ من بائعة هوى إلى خادمة؟! قالت: قررت ترك مهنة البغاء، لم تعد مهنة شريفة. انضمت مؤخرا لهذه المهنة مئات اللاجئات من منطقتكم، وتدهور المستوى. الواحدة منهن تقوم بأي شيء وبأقل أجرة حقيرة.

كنت دائما أستمتع بحديثه؛ فلم يكن مجرد طبيب بل فيلسوفا حكيما أيضا. حدثني يوما عن أحد مرضاه المسنين. كان يأتي في نهاية كل شهر ويطلب وصفة جديدة لـ«الفياغرا». وكان عمره 89 سنة، وبالتالي يحصل عليها على حساب الدولة، قلت له: كيف يا عزيزي؟ أليس في هذا خطر على صحته وهو في هذا العمر؟ قال لا، هذا طلب يدل على رغبة في الحياة والاستمتاع بها، وهذا نصف المعركة.

وداعا يا حكيم الأطباء.. وسام قندلا.