التاريخ يعيد نفسه.. هذه المرة مع جيمي ديمون

TT

أحيانا يكون من الصعب أن نفسر لماذا نحتاج إلى ضوابط تنظيمية مالية قوية، وخاصة في عصر مشبع بالدعاية للشركات الخاصة وآليات السوق، وبالتالي لا بد أن نشعر دوما بالامتنان حينما يجعل أحدهم الأسباب الداعية إلى فرض ضوابط تنظيمية أكثر إقناعا وأيسر في الفهم بالنسبة لنا. وعلى هذا الأساس، فلا بد أن نوجه تحية خاصة هذا الأسبوع إلى رجلين هما: جيمي ديمون وميت رومني.

وسوف أعود بعد قليل إلى المتاعب التي يعاني منها مصرف «جي بي مورغان تشيس»، وهو المصرف الذي يديره ديمون. ولكن دعوني أتحدث أولا عن رومني، الذي كانت تصريحاته بشأن تلك المتاعب غير ملائمة بصورة لا بد أن تدرس.

وإليكم ما قاله المرشح الرئاسي الجمهوري المحتمل عن خسارة مصرف «جي بي مورغان» لمبلغ ملياري دولار (التي كان من الممكن في الواقع أن تصبح 3 أو 5 مليارات دولار أو أكثر، ولكن من يهتم؟): «هذه خسارة لمساهمي وأصحاب (جي بي مورغان)، وهذه هي الطريقة التي تسير بها أميركا. بعض الناس تكبدوا خسارة، في هذه الحالة، بسبب قرار خاطئ. وبالمناسبة، فهناك من حقق أرباحا».

ما المشكلة في هذا التصريح؟ حسنا. هب أن شخصا ما (وليكن مثلا الممثل جيمي ستيوارت في فيلم «إنها حياة رائعة») يدير مصرفا يودع فيه الناس أموالهم ليستثمرها بطرق متعددة، وهب أن أحد تلك الاستثمارات ينطوي على رهان خطر على إحدى الأدوات المالية المركبة، وهناك في المقابل بوتر، الرجل الشرير ذو المال والنفوذ.

إذا ربح جيمي ستيوارت الرهان، فنحن نعيش في عالم رومني: لقد حقق أرباحا وخسر بوتر المال، وانتهى الأمر. ولكن لنفترض أن جيمي ستيوارت خسر الرهان: إذا كان الرهان كبيرا بالقدر الكافي، فلن يعود لديه ما يكفي من الأصول كي يرد إلى المودعين أموالهم، وسوف ينهار مصرفه، محدثا على الأرجح طوفانا مصرفيا فوضويا يجرف أمامه اقتصاد البلد بأسره، ليعم الانهيار كل شيء. صحيح أن بوتر حقق أرباحا من الصفقة، ولكن ماذا بعد؟

الشاهد في الأمر هو أنه ليس من الصواب أن تضطلع المصارف بتلك النوعيات من المخاطر التي تعد مقبولة بالنسبة للأفراد، لأن المصارف حينما تتحمل مخاطر أكثر من اللازم تعرض بذلك الاقتصاد بأكمله للخطر، إلا إذا كان باستطاعتها أن تركن إلى حصولها على إنقاذ مالي خارجي، واحتمال الحصول على هذا الإنقاذ المالي، بالطبع، لا يؤدي إلا إلى تعزيز النظرية القائلة بضرورة عدم السماح للمصارف بالتهور أكثر من اللازم، حيث إنها تقامر في الحقيقة بأموال دافعي الضرائب.

وبالمصادفة، كيف أمكن أن لا يكون رومني على دراية بكل هذا؟ إن كل ما أهله لتولي هذا المنصب هو ادعاؤه أن خبرته في استخلاص الأموال من الشركات المتعثرة تعني أنه سوف يعرف كيف يدير الاقتصاد، إلا أنه كلما تحدث عن السياسة الاقتصادية، كان كلامه يكشف عن جهل مطبق.

وعلى أي حال، فغني عن القول أن جيمي ديمون ليس جيمي ستيوارت، إلا أنه ظل يلعب، نوعا ما، دور جيمي ستيوارت على شاشة التلفزيون، حيث كان يقدم نفسه على أنه مصرفي مسؤول يعرف كيف تتم إدارة المخاطر، ومن ثم فهو رأس الحربة في معركة «وول ستريت»، من أجل منع أي تشديد للوائح والضوابط التنظيمية، على الرغم من الأضرار الجسيمة التي ابتلي بها الاقتصاد الأميركي بالفعل بسبب المصارف غير الخاضعة لأي ضوابط تنظيمية. والحقيقة أن مضمون ما كان يقوله ديمون هو: ثقوا بنا، لقد غطينا هذا، ولن يحدث مرة أخرى.

والآن، بدأت الحقيقة تتكشف، وهي أن هذه الخسارة المليارية لم تكن واقعة فردية، بل كانت حادثة منتظرة الوقوع، فحتى حينما كان ديمون يلقي خطبا عن العمل المصرفي المسؤول، كانت مؤسسته المالية نفسها تنغمس أكثر فأكثر في المخاطر. وقد نشرت صحيفة «فايننشيال تايمز» تقريرا قالت فيه: «إن الوحدة التي كانت المتسبب الرئيسي في تكبد (جي بي مورغان) خسائر تداول بلغت ملياري دولار دخلت في معاملات يزيد إجماليها على 100 مليار دولار في الأوراق المالية المضمونة بأصول والمنتجات المشتقة، وهي السندات المركبة عالية المخاطرة التي كانت السبب الرئيسي في حدوث الأزمة المالية عام 2008. وهذه الأصول، إلى جانب المشتقات الائتمانية، هي ما أدى إلى تلك الخسائر».

ثم ما الذي كان يحدث بينما يتم الدخول في تلك المعاملات؟ طبقا لتقرير متميز نشرته صحيفة «صنداي تايمز»، فإن الحقيقة التي تكمن وراء قناع الكفاءة الذي كان يرتديه مصرف «جي بي مورغان» كانت مشهدا يعيد إلى الأذهان السلوك الذي أسقط شركات مثل «إيه آي جي» في عام 2008، من مسؤولين متغطرسين يخرسون أي شخص يحاول التشكيك فيما يقومون به من أعمال، إلى إدارة عليا لا تسأل أي أسئلة طالما ظل المال يتدفق إلى خزائنها. حقا إن التاريخ يعيد نفسه من جديد.

والشاهد في الأمر مرة أخرى هو أن مؤسسة مثل «جي بي مورغان» (باعتبارها مؤسسة مصرفية أكبر من أن تتعرض للانهيار، ناهيك عن كون الأموال المودعة بها مضمونة بالفعل من قبل دافعي الضرائب الأميركيين) ينبغي أن لا تنخرط مطلقا في مثل هذه النوعية من الاستثمار القائم على المضاربة. ولهذا فنحن في حاجة للعودة من جديد إلى فرض ضوابط مالية أكثر صرامة بكثير، أكثر صرامة حتى من الضوابط التنظيمية التي تم سنها في عام 2010 بموجب قانون «دود فرنك».

ولكن هل سنحصل على تلك النوعية من الضوابط التنظيمية؟ بالطبع لن يحدث هذا إذا فاز رومني، فهو يريد إلغاء قانون «دود فرنك»، كما يبدو من حديثه بشكل عام أنه سيفعل كل ما في وسعه كي يجرنا إلى أزمة مالية أخرى. وحتى إذا أعيد انتخاب الرئيس أوباما، فإن الحصول على نوعية الضوابط التنظيمية التي نريدها لن يكون بالمهمة اليسيرة. ولكن كما برهن فشل ديمون توا، فإن هذه المهمة تظل ضرورية كما كانت في أي وقت مضى.

* خدمة

«نيويورك تايمز»