سانحة استراتيجية لتأسيس الكتلة الاقتصادية العربية ـ الأفريقية

TT

استبشرت الأوساط العربية الأفريقية خيرا باستضافة دولة الكويت للقمة العربية الأفريقية الثالثة في عام 2013، نظرا للمكانة التي تحتلها الكويت في نفوس العرب والأفارقة على حد سواء، والمساعدات التي ظلت تقدمها لهم، سواء من الدولة مباشرة، أو عن طريق الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، الذي يعتبر إحدى أهم مؤسسات التمويل الإنمائي العربية العاملة في الدول الأفريقية.

وتنعقد هذه القمة في وقت تضاعف فيه اهتمام العالم أجمع بمستقبل التنمية في القارة الأفريقية، للاستفادة المشتركة من الفرص الهائلة التي يتيحها التحول الاقتصادي والاجتماعي الموعود في الدول الأفريقية. وقد تجسد ذلك الاهتمام في بروز عدد من استراتيجيات الشراكة مع الدول الأفريقية شملت كلا من المنتدى الاستراتيجي الخليجي - الأفريقي، كيب تاون جمهورية جنوب أفريقيا في عام 2009، ومؤتمر الاستثمار الخليجي - الأفريقي، الذي انعقد بمدينة الرياض في عام 2010 تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين. واستراتيجية الشراكة الأفريقية العربية، التي أقرتها القمة العربية الأفريقية الثانية في سرت عام 2010، واستراتيجية الشراكة الأفريقية مع الاقتصادات الناشئة الخمسة؛ البرازيل وروسيا والهند والصين وجمهورية جنوب أفريقيا، (بريكس BRICS) لعام 2011، واستراتيجية البنك الدولي الجديدة لأفريقيا لعام 2011.

وتأتي هذه الاستراتيجيات على خلفية الإحباط الذي عانت منه الدول الأفريقية في اعتمادها الكبير على العون التقليدي المشروط من الدول الصناعية، مما أدى لتجدد النزعة نحو تلقي المساعدات من الدول النامية ذات الإمكانات المالية والتقنية لمساعدة دول القارة على مواجهة التحديات الماثلة. وفي هذا السياق، اكتسب تعاون الجنوب - الجنوب أهمية متجددة في الهندسة المالية والاقتصادية، والاستراتيجيات العالمية المستحدثة لحل مشكلات الدول الأفريقية. وفي هذا الصدد، برز التعاون العربي الأفريقي كأقدم وأنجح نماذج تعاون الجنوب - الجنوب التي شهدها العالم. وتجلى ذلك في النجاح المرموق الذي حققته مؤسسات التمويل العربية العاملة في مجال التعاون العربي الأفريقي في المساهمة في تحقيق التنمية بالدول الأفريقية جنوب الصحراء. وتشمل هذه المؤسسات: الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، والصندوق السعودي للتنمية، وصندوق أبوظبي للتنمية، والمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا، والبنك الإسلامي للتنمية، وصندوق الأوبك للتنمية الدولية، وبرنامج الخليج العربي للتنمية (أجفند). بيد أن ذلك النجاح الذي بلغته هذه المؤسسات في تحقيق التنمية بالدول الأفريقية جنوب الصحراء قد انحصر بشكل كبير في إطار العون العربي التقليدي لأفريقيا، وليس التعاون العربي الأفريقي بمفهومه الاستراتيجي ذي المردود الاقتصادي للعرب والأفارقة على حد سواء.

ففي حين كان تدفق العون العربي لأفريقيا، دون عائد اقتصادي للدول العربية المانحة، أمرا مرغوبا سياسيا واستراتيجيا عند إنشاء المؤسسات التمويلية العربية في سبعينات القرن الماضي، فإن هذا النسق من العون أخذ يفقد مسوغاته تدريجيا بتواتر انعكاسات العولمة والأزمة المالية العالمية، على الدول العربية الخليجية المانحة.

وتشير الدلائل إلى أن هذه التطورات الاقتصادية العالمية المتواترة قد أفرزت واقعا اقتصاديا جديدا في الدول العربية الخليجية المانحة يدفعها لإعادة النظر في التعاون العربي الأفريقي، بحيث تحل الاعتبارات الاقتصادية والتجارية محل الاعتبارات التي سادت في نهايات القرن الماضي.

ولعل خير مثال لذلك اتجاه المملكة العربية السعودية منذ عام 2010 لربط المساعدات التي يقدمها الصندوق السعودي للتنمية للدول الأفريقية، بشراء منتجات صناعية سعودية. ومما يجدر ذكره أن عددا من الدول الخليجية المانحة قد شهد تطورا مهما في إنتاج سلع وخدمات بميزة نسبية مقدرة، مثل المملكة العربية السعودية (الكابلات الكهربائية، الأسمدة، تشييد الطرق، الخدمات الصحية)، والإمارات العربية المتحدة (أدوات البناء والتشييد، تقنية المعلومات، إعادة الصادرات)، والكويت (البتروكيماويات وتشييد الطرق). وذلك فضلا عن إنتاج الدول العربية غير الخليجية سلعا وخدمات منافِسة، مثل: الصناعات الغذائية، والخدمات التعليمية.

وفي المقابل، هناك مجال واسع للصادرات الزراعية الأفريقية للمساهمة في سد الفجوة الغذائية العربية، التي بلغت قيمتها في عام 2010 نحو 37 مليار دولار.

وفي هذا الصدد، يمكن للدول العربية المانحة، ورؤوس الأموال العربية، مساعدة الدول الأفريقية في إطار الشراكة الاستراتيجية، على إنتاج سلع غذائية بميزة نسبية، مثل الحبوب، والزيوت النباتية، ومنتجات الألبان، والسكر واللحوم الحمراء.

وحتى تزدهر الشراكة العربية الأفريقية في عصر العولمة على النحو الاستراتيجي المنشود لمواجهة التكتلات الاقتصادية العملاقة (مثل الاتحاد الأوروبي والنافتا)، يحسُن للدول العربية والأفريقية السعي لإقامة كتلة اقتصادية عربية أفريقية قائمة على العدالة ومصلحة الشعبين العربي والأفريقي تساعد هذه الدول على مواجهة المعاملة الظالمة من الدول الصناعية المتمثلة في شروط التجارة الجائرة، والدعم الزراعي، والهيمنة على النظام العالمي، والإغراق، وإدراج حماية الملكية الفكرية في اتفاق التجارة الدولية في جولة أوروغواي، الأمر الذي فاقم الضغوط التجارية وصعّب المنافسة بالنسبة للدول العربية والأفريقية. ومن ثم، فهناك واقع اقتصادي يفرض حتمية شحذ الإرادة لإنشاء منطقة التجارة العربية الأفريقية الحرة الكبرى كبداية لقيام الكتلة الاقتصادية العربية الأفريقية.

ومما يجدر ذكره أن منطقة التجارة العربية الحرة الكبرى (GAFTA) كانت فد دخلت حيّز التنفيذ في يناير (كانون الثاني) 2005، بحيث يُطلق الاتحاد الجمركي العربي في عام 2015.

وفي المقابل، فقد شهد عدد من الأقاليم الأفريقية بلوغ مراحل متقدمة من مراحل التكامل التجاري والاقتصادي شملت منطقة التجارة الحرة الكبرى، والاتحاد الجمركي. وتشمل هذه الأقاليم: الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS)، والجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا (ECCAS)، وجماعة شرق أفريقيا (EAC)، والسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا (COMESA).

وعلى خلفية هذه التوقعات المرتكزة على استقراء مستنير للمآلات التكاملية الواعدة في الدول العربية والأفريقية، فإن تسارع الخطى نحو إقامة التكتل الاقتصادي العربي الأفريقي من شأنه أن يقرّب هذه الدول من بلوغ أهدافها في تحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها. وغني عن القول إن مؤسسات التمويل الإنمائي العربية، بما تتمتع به من موارد مادية وبشرية، منوط بها أن تلعب دورا جوهريا في بلوغ هذه الغايات. وعليه، فإن دور هذه المؤسسات يجب أن لا ينحصر فقط في زيادة حجم التعهدات وعدد المشاريع وعمليات المعونة الفنية للدول الأفريقية، بل يجب أن يكون هناك تركيز مماثل على فاعلية وكفاءة هذه التدخلات في تحقيق الأهداف الاستراتيجية العربية المرجوة. ويشمل ذلك انتهاج مؤسسات التمويل الإنمائي العربية لأسلوب الاستنباط الاستراتيجي للمشاريع وعمليات المعونة الفنية في الدول الأفريقية. ويعني هذا الأسلوب تفضيل هذه المؤسسات لاستنباط المشاريع في الدول الأفريقية جنوب الصحراء، التي يحتاج تنفيذها لاستخدام كثيف للسلع والخدمات المنتجة عربيا.

وتعزيزا لجهود دولة الكويت الحثيثة لإنجاح القمة العربية الأفريقية الثالثة (2013) وبلوغ هذه المآلات المرجوة، فلعله من المفيد استباق القمة باجتماعَي خبراء رفيعَي المستوى، يمكن تخصيص الأول لمناقشة موضوع تأسيس الكتلة العربية الأفريقية في ضوء الاستراتيجيات الدولية الجديدة للتعامل مع الدول الأفريقية جنوب الصحراء. ويمكن أن يخصص الاجتماع الثاني لمناقشة استراتيجية مؤسسات العمل العربي المشترك في ضوء الهندسة المالية والسياسية العالمية الجديدة تجاه القارة الأفريقية، بما يعود بالفائدة المشتركة للدول الأفريقية، والدول العربية الخليجية ذات المساهمة الجوهرية في رأسمال مؤسسات التمويل الإنمائي العربية. ويقترح أن يرتكز هذا الاجتماع على نتائج المنتدى الاستراتيجي الخليجي الأفريقي في عام 2009، ومؤتمر الاستثمار الخليجي - الأفريقي الذي انعقد بمدينة الرياض في عام 2010 تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين. ومن ناحية أخرى، فربما يحسُن عقد مائدة مستديرة تفاعلية تشارك فيها مجموعة من الدول العربية والأفريقية، بحيث ترمي هذه المائدة المستديرة لشحذ الإرادة السياسية لتكوين الكتلة العربية الأفريقية، وتعبئة الموارد البشرية والمادية للارتقاء بهذه الكتلة إلى آفاق أرحب، تعود بالنفع على الدول العربية والأفريقية على حد سواء.

ولعل ما يزيد من ضرورة مضاعفة الجهود المشتركة المعززة لقيام الكتلة الاقتصادية العربية الأفريقية، التوقعات بزيادة عدد السكان في الدول الأفريقية غير العربية ليصل إلى نحو ملياري نسمة بحلول عام 2050، كما يتوقع أن يبلغ إجمالي عدد السكان في الدول العربية في ذلك التاريخ نحو نصف مليار نسمة. وهذا يعني أن المجموع الكلي لسكان الكتلة العربية الأفريقية يتوقع أن يبلغ نحو 2.5 مليار نسمة في عام 2050.

* اقتصادي سوداني