هل انتهى التصفيق للشارع؟

TT

لو نجح المرشح حمدين صباحي أو المرشح عبد المنعم أبو الفتح، هل كان المتظاهرون الآن في ميدان التحرير، وغيره، والصاخبون في الإنترنت والفضائيات سيرضون أن أنصار الفريق شفيق، أو حتى الدكتور محمد مرسي، مرشح «الإخوان»، يشعلون المظاهرات والاعتصامات، في ميادين مصر، طلبا لوضع مجلس رئاسي بديل، أو مشارك في الحكم؟

بكلمة أخرى، أليست أصول اللعبة وقواعدها تقضي بأن يتم الرضا بنتائج الصندوق؟ أليست الثورة من أجل الحرية؟ هل هناك طعون جدية في نتائج الانتخابات المراقبة من أكثر من جهة محلية وإقليمية ودولية؟ ثم حتى لو كانت ثمة طعون هل تصل بالنتائج إلى فرق ملايين الأصوات؟

شفيق، فاز بخمسة ملايين وأكثر من خمسمائة ألف، ومرسي فاز بخمسة ملايين وأكثر من سبعمائة ألف صوت، أي أن نتائج أصواتهما مجتمعين تصل إلى أكثر من 11 مليون صوت، من واقع نحو 25 مليون صوت أدلوا باختيارهم. وعدد المرشحين كلهم 13 مرشحا.

النتيجة تعبر عن نفسها وعن توجهات الشارع المصري.. وفي النهاية كان لا بد أن يفوز مرشح واحد.

ثم ألم يخفق أنصار «الثورة المستمرة» من كل الحركات التي تقول إنها مدنية ثورية و«وسطية» في كل الاستحقاقات الشعبية التي تلت سقوط نظام مبارك، من الاستفتاء على التعديلات الدستورية إلى الانتخابات النيابية إلى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية؟

ليست مرة ولا مرتين، بل ثلاث، فهل كلها كانت مزورة وشغل فلول وعلبة سكر وزيت من «الإخوان»؟

هذا كلام خفيف.

الإعلام المصري الثوري، وهو المهيمن على الفضائيات الآن، ومن يجاريه في اللغة والعواطف من الإعلام العربي، لم يصدق إلى الآن أنه لم يعرف حقا اتجاهات الرأي الحقيقية لدى الشعب المصري، وأن هذا الإعلام كان يؤلف الأغاني لنفسه!

انحصر الناشطون الثوريون، ومن ينافقهم من النخب الثقافية، وكذلك الإخوان المسلمون - الذين يضعون رجلا في الثورة المدنية ورجلا في الثورة الإسلامية - في مخاطبة أنفسهم، وكلنا يتذكر كيف توافقت قنوات الإعلام المصري الخاصة ومعها الصحف المصرية، ومن يستقي منهم من بعض المتعاطفين الثوريين العرب، استنادا إلى نتائج استطلاع الرأي الذي كان مركز الأهرام يجريه، على التقليل من فرص مرسي وشفيق، لتأتي النتيجة مثل المطرقة على رؤوس هؤلاء وتبين حقيقة جهل الجميع بما يحرك المصريين الآن فعلا، وكيف تغلب التفكير الرغبوي على وسائل الإعلام ومن يتحدث فيها أو يكتب، على التقصي الحقيقي عن الواقع.

منذ البداية، أقصد بداية موسم ما سمي بالربيع العربي ونحن نشهد حالة سقوط مدوٍّ للنخب العربية، هذا السقوط والانكشاف يكمن في ترك وظيفة المفكر والمثقف المتأمل، في التعرف على الأمر كما هو، ثم محاولة فهمه بآلياته الحقيقية، ثم محاولة تفسيره بعد فهمه، وإن أمكن التأثير فيه، وكيف يكون هذا التأثير.

لم يحدث شيء من هذا لدى النخب العربية، ومنها المصرية والسعودية، والعربية بشكل عام، الجميع – إلا ثلة قليلة - صفق للشارع العربي العظيم، وهلل لثورة الحرية، وبشر بهطول أمطار دولة القانون والكرامة، وعودة الحرية المنيرة، ونهاية أساطير الأنظمة السابقة (هل تذكرون كيف قرعنا البعض بأننا كنا نردد أساطير نظام مبارك عن «فزاعة» الإخوان والأصوليين؟).

فجأة بدا من كان بالأمس القريب، بل قبل أشهر، يهتف ويصفق لثورة «الشباب اللي زي الورد» والمدني المنفتح، وكيف انتهى عصر النخب وبدأ عصر الشباب والـ«فيس بوك» و«تويتر»... إلخ هذه الترهات.

فجأة بدأ هؤلاء يقرعون سن الحيرة ويتساءلون: أين ذهب وائل غنيم، والـ«فيس بوك»؟

رغم أنهم لو لجموا عواطفهم من البداية، ولم يلتحموا بعواطف الجمهور الغامض، في لحظة شديدة الانفعال والتعقيد، ويعودوا إلى ممارسة ما يفترض بهم ممارسته، وهو التفحص والفهم والتفسير، لكان أجدى لنا ولهم وللناس.

العاطفة تنطفئ، والسكرة تعقبها الفكرة، ووهج النار في السعف اليابس لا يلبث أن يمسي رمادا، وتبقى الأفكار الصلبة والمتماسكة، التي لم تتهشم، وتذروها رياح الجماهير.

عودا على مصر، هناك حالة إنكار للواقع، وإصرار على معانقة ميدان التحرير، وتقديسه، واللواذ به، على طريقة الأضرحة والأولياء، طلبا لتفريج الكربات، وقد كان مشهد المرشح الثوري «النقي» خالد علي، وهو محمول على الأعناق هاتفا وساخطا في ميدان التحرير عقب الإعلان عن النتائج، مشهدا معبرا وكاشفا، خصوصا أن الأصوات التي صبت له نحو 130 ألف صوت.

مرة أخرى المشكلة في النخب أو الناس المنسوبة للنخب، فما زالت تجاري الشارع الأعلى صوتا وصخبا وتنقاد في حالة دروشة لصخب شبان الإنترنت والفضائيات، في حالة رثة من فقدان القدرة على الرؤية دون بخار الحماس الذي يعشي الأبصار وبروق اللحظة التي تبهر الأنظار.

هذه النخب التي أتحدث عنها هي النخب التي تقول إنها تنتمي إلى الفكرة المدنية وتناصر الحريات العامة وتعادي الدولة الدينية.

لقد كان من الواضح بالنسبة لي وللقلة القليلة جدا - وهذه ليست حكمة بأثر رجعي، بل سبقت كتابتها في هذا المكان على مدار عام وأكثر - أن ثمار الربيع العربي كما يسمونه ستتدحرج، خصوصا في مصر وليبيا وربما اليمن، في سلال «الإخوان» وبقية التيارات الأصولية، وأن هتاف وحراك من يسمون بالمدنيين، لن يكون إلا وقودا في نار «الإخوان» التي ستأكل الأخضر واليابس، وتحاصر فكرة الحرية المدنية نفسها، وهكذا صار في البروفة المصرية، وهكذا استغرب وصرخ واحتج الثوار المدنيون وأنصارهم من «النخب» العربية، بسبب مطالب سلفيي مصر وإخوانها في البرلمان، وكأن الأمر مفاجأة مدهشة لهم!

أما النخب التي تناصر الجماعات الإسلامية، سرا وجهرا، خصوصا «الإخوان» ومشتقاتهم، مثل نهضة الغنوشي وتنمية ابن كيران في المغرب، وإصلاح الزنداني والآنسي في اليمن، فهي بالطبع ستنشد أناشيد الحرية والديمقراطية (الآن) ما دامت أناشيد لن تفسد الموسيقى الإخوانية لاحقا، وستبهت في النهاية في أصوات الكمان و«القانون» الإخواني.

أتدرون ما هي المشكلة الحقيقية؟ إنها كثرة الصخب والضجيج، وكثرة الأخبار والمعلومات، واللهف على تسجيل موقف جماهيري، والشغف بالشهرة، وتحول الجميع إلى مفهوم المثقف العضوي «الغرامشي» الملتزم، لكن كل هذه الدسومة السطحية، هي في مقابل فقر شديد في الوعي والتفهم والنفاذ إلى ما خلف الظاهر.

أعرف أن اللغة حادة وصاخبة في هذا المقال، ولكن العذر أن هذه العيوب الخطيرة في سلوك التفكير النخبوي العربي كانت ملازمة لنا بشكل ملح في «سيل» الفضائيات والصحف طيلة أكثر من عام، وهي جزء من الورطة التي نحن فيها.

سيقال: لنصبر، وهذه بداية الديمقراطية. ولكن عقلاء من مصر حذروا من قبل من هذه الورطة، ففي شهر مايو (أيار) الماضي، وفي حكومة ثورية باركها الثوار، قال وزير العدل المصري، المستشار عبد العزيز الجندي: «مصر أمة في خطر».

لنخفف قليلا من الانفعالات العاطفية ونرَ الواقع كما هو، ونكف عن الركض خلف الشارع، وفي الشارع، والإعلام الذي يخاطب نفسه فقط، كما كان الإعلام الرسمي يفعل بالضبط.

وبعد:

كان بالإمكان، سابقا أحسن من هذا كله، وعدم فتح الباب الخطير للفوضى العارمة.

في منتصف العام الماضي نشر في الصحف المصرية طرف من مذكرات صلاح نصر، وزير المخابرات الأسبق وأحد أنصار المشير عامر، وكان مما أورده فيها رسالة خطيرة كتبها المشير للرئيس في 1962 جاء فيها أنه يريد الاستقالة من مواقعه كلها، وأنه قبل أن يرحل يريد نصيحة الرئيس بأن يظل الجيش حاميا للثورة، ولكن يجب علينا أن نفسح المجال للحياة الحزبية الحرة وأن يكون هناك برلمان حقيقي وحرية رأي وصحافة غير مذعورة، وأن تصبح الحكومة مسؤولة أمام البرلمان... ذهلت وأنا أقرأ هذه الرسالة وكأنها تتحدث عن «المشير» طنطاوي وليس «عامر».

كان بالإمكان أحسن مما كان.

[email protected]