الوطن.. الدولة.. والنظام في الخطاب السوري

TT

ثلاثية يحاول الخطاب السوري الرسمي أن يخلطها في أذهان الناس؛ الأولى ثابتة قطعيا ومستمرة، والثانية ثابتة نسبيا.. أما الثالثة، فهي بطبعها متغيرة مع تغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. إذا لم يستطع النظام أن يساير مطالب الناس، فهو متغير لا محالة، مهما حاول من تسويف أو استخدم من عنف الأدوات التي يملكها أو لغة خطاب تجاوزها الزمن.

الموضوع السوري يريد له البعض التمييع عن طريق خلق شعارات وعناوين مخالفة لما هو حقيقة؛ فالحقيقة الأولى والأخيرة هي أن الشعب السوري يريد الحرية، في فضاء عالمي وإقليمي لم تعد معه الأدوات القديمة تصلح للحاضر، فلم يعد «الحزب القائد» فكرة مهضومة، ولم تعد الممانعة مصدقة. تلاعب النظام السوري بالمفاهيم؛ عن قصد أو بسبب طول الممارسة.. إن مفهوم المساس بالنظام هو مساس بالدولة وبالوطن، لم يعد له مكان لدى العقلاء في الداخل السوري أو في الجوار. خطاب الرئيس بشار للعاقل يهدم ما يريد بناءه «حرب خارجية بأدوات داخلية»! أو إنه يريد «تنظيف الشارع السياسي السوري»! أو إن الشباب السوري يقتل حيث يدفع له 40 دولارا؟ إنها إهانات تضاف إلى الجروح الغائرة.

بمقارنة الخسائر بالمكاسب في حساب بسيط يجرى في قصر المهاجرين بعد إلقاء الرئيس بشار خطابه أول من أمس، يرى من يقوم بالحساب أن الخسائر أفدح بكثير من المكاسب، لقد بلغ عدد الشهداء السوريين الآن ما يزيد على الخمسة عشر ألف شهيد، كما وصل عدد المعتقلين إلى ما فوق المائتي ألف معتقل.. فما المردود من كل ذلك في المقابل؟ فما زال الخطاب السوري الرسمي غريبا عن فهم مطالب الحرية.

الممانعة والمقاومة التي يبيعها النظام السوري حتى الساعة إلى السذج والمخدوعين لم تعد تؤتي أكلها.. تعالوا نحسبها عقلا أيضا عن طريق مقارنتها بالمصالحة في مكان آخر.. مصر على سبيل المثال.

فقد قامت مصر بدخول السلام «البارد»، أي باستبعاد الحرب مع الكيان الصهيوني طوال العقود الأربعة الماضية، ولكن النتيجة هي ذاتها مع سوريا! فإن كان هناك سلام بارد في القاهرة، فهنا في دمشق ممانعة باردة أيضا، وهي للعاقل النتيجة نفسها مع اختلاف الأدوات، فأي ممانعة يتحدث عنها النظام السوري اليوم؟! أما إذا ذهبنا إلى مكان أبعد، وهي مقارنة الحريات في دول «السلام البارد» مثل مصر والأردن، فإن سقف الحريات هناك عال بالنسبة لما يتمتع به المواطن المصري أو الأردني، مقارنة بالمواطن السوري حيث يقف وراء كل رجل هناك أكثر من جهاز مخابرات يحصي عليه أنفاسه ويراقب تحركاته.. فما الذي يجعل المواطن السوري يقبل مثل هذا النظام الذي لم يحرمه من العيش فقط، حيث وزع الكعكة الاقتصادية على محاسيبه وزبانيته، ولكن حرمه من أكثر من ذلك.. من الحرية التي هي سمة العصر وأمنية الشعوب في الشرق والغرب.

إذن ما المكسب الذي يريد النظام السوري أن يبقي عليه! لا أرى إلا مكسبا واحدا فقط؛ هو البقاء على هرم الجماجم وسط نحيب الضحايا وصياح الأطفال من القصف المستمر على منازلهم وبقر بطون النساء. لم يعد هناك أي هامش ولو ضئيل يمكن الإشارة إليه على أنه تناغم بين الأكثرية السورية والنظام.. هذا الهامش أخذ يضيق باضطراد في الشهور الاثني عشر الأخيرة حتى انعدم، وهذا الانعدام إما معلن من البعض، أو مضمر من البعض الآخر خوفا لا موافقة، فلم يعد أحد يحمل في عقله بعض الحكمة يرى أن مثل هذا النظام وبعد كل هذا الدم يمكن أن يؤهل!

لقد أصبحت سوريا اليوم «دولة رخوة» بالمعنى الحقيقي للتعبير، أي إنها تعتقل مئات الآلاف من مواطنيها، كما أنها تفتقد الحد الأدنى من الإقناع خارج إطار استخدام السلاح من أجل صمت الجمهور العام والقبول بما هو قائم. ومع ذلك، الجمهور لا يصمت؛ ففي كل جمعة وسبت وأربعاء وخميس تخرج جموع الشعب السوري في أكثر من مكان إلى الساحات والأماكن العامة؛ إما للاحتجاج، أو لتوديع الشهداء الذين سقطوا في اليوم السابق. الدولة الرخوة لها وصف آخر؛ هو الخوف المرضي العميق لمن هم في السلطة من فقدان السلطة، وبالتالي، العجز عن تقديم أي مبادرة سياسية تتيح للمواطنين التعبير الحقيقي عن مكنوناتهم. هذا الخوف المرضي يولد القرار المزاجي الاندفاعي والانفعالي البعيد عن الحكمة.. وكلما تفاقم الخوف، زادت القناعة بالانتقام من جهة، وبتصديق الأوهام التي يطلقونها من جهة أخرى، كما القول بوجود قوى خارجية أو مؤامرة يجبر عليها الشعب السوري.. إنها حالة الإنكار التي تتلبس المسؤولين في سوريا ويطربون لها، كما أنها تتساوى مع حالة الإنكار التي اتضحت في المثالين المصري والليبي السابقين.

بسبب تضخيم المخاوف، يدخل النظام في دوامة مقفلة من استخدام اليد الثقيلة كما حدث في مجزرة الحولة، ولوم آخرين على نتائج اليد الثقيلة، حتى يغرق في الدم ويزيد من الإضرار بنفسه. هذا بالضبط ما يحدث في سوريا اليوم.. كلما اتُخذ قرار في مؤسسة دولية مضاد لأعمال الرئيس، زاد افتراءه كما جاء في خطابه الأخير أن «سوريا لا تواجه مشكلة سياسية». إذن ماذا تواجه والعالم يتنصل منها.. ولا ينظر الرئيس إلى سلوك من كانوا في صفه قبل أشهر خلت؟ على سبيل المثال؛ حماس التي كان يحتضن قادتها ويملي عليها بعض قراراتها، بدأت تغير جلدها لدرجة أن رجلا مثل إسماعيل هنية رئيس الوزراء المُقال، يخطب في 22 فبراير (شباط) الماضي في الأزهر محييا نضال الشعب السوري، ضد «القوة الغاصبة». وإيران الحليف التاريخي الآخر، تقول، على لسان محمود أحمدي نجاد، إنها تستغرب أن يقتل نظام شعبه!

من بقي من الحلفاء؟ بعد جولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوروبا الغربية الأسبوع الماضي، هناك إحساس بتغيير ما؛ إذ قال في أكثر من تصريح إنه ليس مع أي طرف! لقد فات الرئيس بشار الأخذ بنصيحة الذئب الأسمر كوفي أنان في أول لقاء له معه.. إن لم تستطع تغيير اتجاه الريح، غيّر اتجاه الأشرعة! إلا أن أشرعة النظام السوري ليست مرنة بالمرة وترغب أن تغير الريح اتجاهها، وهذا ضد طبيعة الكون ورغبة الشعوب.

آخر الكلام:

الإنسان ليس حيوانا ناطقا، كما يقال، ولا حيوانا عاقلا، فهناك من الحيوانات ما هو ناطق وعاقل.. لكنه كائن له تاريخ، فليس للمخلوقات الأخرى إحساس بالتاريخ، وعندما نسمع البعض، ونحن نتذكر هزيمة يونيو (حزيران)، يقول إنه سوف يقيم الولايات العربية المتحدة وعاصمتها القدس، نتذكر الشعارات الجوفاء القديمة.. فالبعض يريد استغفالنا مرة أخرى. الحرب علم واقتصاد، ألم تصلكم الرسالة بعد؟!