الوجدان الديني.. وحريق العولمة

TT

عندما كانت الافكار تطهى على نار هادئة كانت تتمتع بعمر طويل وتعبر عن قصورها الطبيعي بعد فترة من الامتحان والتجربة، وكانت اغلبية تلك الافكار تنطوي على شحنة فائضة من المثالية، وخاصة من النيات الحسنة، الشيء الذي جعل طروحات كثيرة تلقى الهوى الكبير حتى بعد سقوطها كالماركسية التي خانها الواقع في تحقيق احلام شعوب كثيرة.

ومثل هذا العمر الطويل للطروحات الانسانية التي حاولت صياغة مستقبل افضل، ما كان ليتمتع بدورات كثيفة من عجلات الزمن لولا توفر جانب من الحقيقة يهيئ له الشرعية والمنطق المطلوبين في اي مشروع انساني هاجسه خدمة الانسان في ناحية من نواحي الحياة الكثيرة.

ولكن ماذا يمكن ان نقول بالنسبة الى طرح يكشر عن انيابه بعد عمر قصير جدا؟ هل يتعلق الامر بايقاع جديد يقتفي اثر الطائرات والصواريخ بحيث لا ايقاع غير الايقاع السريع يضبط حياتنا وطروحاتنا... وبالتالي خيباتنا؟

هل تم استبدال النار الهادئة باللهيب المتأجج، ام ان ما هو حقيقي عوضه الزيف فحصل ما يجب ان يحصل؟

ان الحوارات التي طغت في الاشهر الاخيرة، دار بعضها حول نظرية صراع الحضارات لصاموئيل هنتنغتون، وارتكز بعضها الآخر حول اوجه الشبه بين ما يجري وما جرى في التاريخ من حروب صليبية، وانشغل باقي الحوارات في مقاربة الصراع الحاصل والنظر اليه باعتباره صراعا بين البدو والحضر، وهو بالمناسبة تداعيات لنظرية جان برونهس، اذ ان عددا من الجغرافيين والمؤرخين وعلماء الاجتماع انبهروا بمبدأ الغزو الذي شملته والذي ـ حسب نظرية الصراع بين البدو والحضر ـ تقوم به الشعوب البدوية تجاه الشعوب الحضرية.

اطنبنا في الحديث عن هذه الاشكاليات، وكان الجميع في خضم هذا الاطناب يتبع سياسة الحذر والانشغال بالهوامش بدل المتن الحامل للقنبلة الموقوتة. وكلما فتحنا موضوع النظام العالمي الجديد وهو المفتوح على مصراعيه منذ حلوله في البدن العالمي، فإننا نصب جام لغونا في قوانين السوق والمبادرة الخاصة ونغض الطرف عن الطرح الثقافي، ونكتفي باعادة ذر الرماد على بصائر المجتمعات، متحولين الى ببغاوات آدمية تكرر عبارات الثقافة الكونية والتسامح والخصوصية، نكررها وفي الاعماق شعور حاد بسفسطائية جديدة يتأكد حضورها بوضوح اشد في مجال الهويات الثقافية وابعادها المتعددة الشاملة لفضاءات اللغة والدين والعادات والتقاليد.

وقبل ان نمر الى علاقة النظام العالمي الجديد بالمسألة الدينية، وبطرحه الخاص والغريب جدا، تجدر الاشارة الى ان مفهوم الثقافة الكونية من المفاهيم التي تظهر وجاهة فكرية عالية الحلم والافق، اذ ان الطريقة التي فهمت بها ابدت الايام والاحداث السياسية ذات الطابع التاريخي مغادرتها خط الصواب ومناقضتها للخلفية الصادرة عنها، فمفهوم الثقافة الكونية كان المقصود منه تصدير ثقافة معينة الى بقية اصقاع الجغرافيا الثقافية في العالم، بحيث تصبح الثقافة السائدة ذات قطب واحد، على اعتبار ان عالم القطب الواحد من المفروض ان يتحرك ضمن مجال حيوي ثقافي تابع لذلك القطب ولا يشرك به ما دامت علامات القوة في حوزته.

وساعد غموض المفهوم، وتستر اصحابه على مقاصدهم، العديد من الساسة والمثقفين الخادمين للحكومات العتيدة على جعلنا نفهم المسألة بغير حقيقتها وابتكروا لنا مرايا لا نرى فيها الا ما يريدون من المعاني والافكار، حتى اعتقدنا ان الثقافة الكونية هي تلك الطاحونة الجامعة للثقافات كافة والقادرة على جمع شتات الثقافات في رحى واحدة فتتحصل على كوكتيل الذ واشهى واطيب من عصير الفواكه! ولعل هذا الاستسهال الذي اعتمده مقررو النظام العالمي الجديد في المسألة الثقافية هو الذي سارع بظهور تجاعيده وانحداب ظهره بالرغم من ان عوده ما زال طريا مرمريا، حيث لم يسبق في التاريخ ان تم اكتشاف عيوب طرح ما بمثل السرعة التي اكتشفنا فيها مأزق النظام العالمي الجديد وما افرزه من عولمة جابهتها عدة مجموعات بالنقد وبالرفض وبالمظاهرات، وهي تعبيرات حملت احتجاجات ذات لون اقتصادي واخفت الالوان الاخرى الى حين. ويبدو ان هذا الحين قد آن أوانه وكشف عن بقية الانياب القاطعة لأطراف الحقيقة المحركة لروح الطبيعة البشرية.

ولا شك في ان النظام العالمي الجديد يمر منذ بضعة اشهر في صراع وفي مواجهة مع مفاجآت لم تكن له في الحسبان، ولم يحسب لها اي رقم بسيط في توقعاته بعد ان ركز على البعد المادي لمشروعه العالمي ومنحه كل الامكانيات والرجال والاسلحة، ولم يتصور البتة بأن الدين كمقوم ثقافي خطير يمكن ان يكون تلك الريح القوية والعاتية التي تبعثر اوراق العولمة وتأتي على اعمدة النظام العالمي الجديد فتوجه له الصفعة اللازمة والضرورية.

ومن المطبات التي وقع فيها طرح النظام العالمي الجديد مطب تجاوزه للمسألة الدينية بعيدا عن الدرس وعن تحديد خصوصيات الاديان المنتشرة، فساد نوع من اللائكية لم يستطع كل العالم مجاراتها واتباعها وذلك نظرا لوجود شروط موضوعية خاصة بكل ثقافة، ونسي طرح العولمة أن اللائكية التي ينوي تصديرها ستصطدم بثقافة يلعب فيها الدين الدور الاكبر والاكثر بروزا في ملامح وجهها الثقافي، بحيث لا يمكن وضعه على جنب، كما هو حال الدين المسيحي مثلا.

ونظرا الى ان الاسلام هو دين عدد ضخم من سكان هذه المعمورة، فقد بدا الدين الاسلامي وكأنه العدو الاكبر للنظام العالمي الجديد عموما وللعولمة خصوصا، وذلك لسببين: الاول يتعلق بكونه دينا والثاني لانه دين الاسلام تحديدا، ذلك الدين الذي تمكن من الانتشار ومن تعمير عدد لا يحصى ولا يعد من القلوب المؤمنة بالله وبرسوله خاتم الانبياء.

دين الاغلبية هذا، هو الذي جعل الرئيس نيكسون في مذكراته يتمنى نشوء علاقات تعاون وصداقة بين اميركا والعالم الاسلامي، ولكن اسقاط المعطى الديني من لعبة المخطط الدولي هو الذي خلق كل هذا العنف وهذه اللخبطة، لأن كل تهديد للهوية الثقافية وكل تحرش بالدين سواء بحقه مباشرة او عن طريق عملية طرح وشطب، لن ينتهي الا بما نعيشه اليوم من صراعات شراراتها الاولى ذات علاقة عضوية بالسؤال الديني.

وطبعا، كل الجماعات التي تتلقى تهديدا في عمق هويتها الثقافية والدينية من الصعب ان تهتدي الى اشكال دفاعية معقولة رصينة، بل ان شعار الدفاع عن النفس عادة ما يكون «البادئ اظلم»، ومثل هذه الردود التي تدافع عن بعد وجداني وروحي وديني تضطر بدورها الى الوقوع في مطبات قد يتبرأ منها الدين المدافع عنه.

ولكن هل اكتفى طرح النظام العالمي الجديد باقصاء البعد الديني من المشروع المستقبلي للانسانية ام ان له طرحا آخر افسد عليه جولاته وصولاته؟

في الحقيقة، منظرو النظام العالمي الجديد، ارادوا ان يخلقوا دينا واحدا لكل هذه الانسانية، ولان ما ارادوه يضاهي المستحيل فإن الطبخة «المقترحة» ابدت تعفنها سريعا، ذلك ان الدين يطبق ولا يختلق ومهما اجتهد المنظرون وحاولوا الوقوف عند اهم المبادئ العامة المؤلفة بين الاديان من قيم مشتركة فإن تلك «التوليفة» من القيم الدينية لا يمكنها تعويض الاديان في منظوماتها الاصلية والشاملة، حيث ان كل دين، علاوة على المبادئ التي يشترك فيها مع الاديان الاخرى، يقوم على خصوصيات سعت عملية «التوليف» الى طمسها واقصائها، وهو الشيء الذي جرنا الى ما نتخبط فيه نتيجة سوء تقدير وسوء تخطيط وسوء تحكم في مناطق لا حكم فيها الا للوجدان وللروح وللخالق، وكأن الدين سلعة يتم تسويقها على شاكلة المارلبورو او الجينز. لهذا فإن اغلب الظن ان العالم لن يتوقف عن الانتفاضة حتى ولو اضطر الى التوقف، لأن الوجع الذي يسيطر على وجدانه لن يبعد عنه شبح الانين ولن يحسم امر خصومته مع هويته الثقافية الدينية الا عندما يتنفس بين جوانحه التعاليم الدينية التي تربى عليها وشكل وجدانه الديني بها، وأحس بأن لا طوفان يهدد كيانه المنحوت منذ زمن الألواح.

* كاتبة تونسية