«رؤية باول» أبجدية ناقصة في غياب لغة أميركية واضحة

TT

بعد أقل من عشر ساعات على خطاب كولن باول في جامعة لويفيل بولاية كنتاكي، جاءت الردود الاسرائيلية سريعة: نعم مخادعة في الاعلان السياسي بحيث لا يتم احراج جورج بوش في هذه المرحلة الدقيقة، ولا صاخبة في الممارسة الميدانية، بحيث يتم تأكيد الموقف من المستوطنات والانتفاضة.

وهكذا بدا الأمر مدعاة للسخرية المرة صباح يوم الخميس الماضي، ففي حين اثبت الاجتياح المدرع لمخيم رفح، حيث جرح اربعة فلسطينيين ودمّر 18 منزلا، ان ارييل شارون، لا يترك مجالا يساعد على وقف العنف بما يؤكد ان «اسبوع التهدئة» قد يحتاج دهرا ليبدأ، اثبت الاعلان الاسرائيلي عن مباشرة البناء بالاسمنت في مستوطنة الخليل، ان حظ كلام باول الذي يدعو الى وقف الاستيطان لن يكون افضل من دعوته الى وقف العنف.

ولا يحتاج المرء الى عناء كبير لاستخلاص محتوى الرسائل الاسرائيلية السرية التي تطايرت الى واشنطن سواء من رفح او من الخليل، وعلى هذا فإن السؤال الاساسي الذي يمكن طرحه الآن هو: ماذا سيكون في وسع مستشار باول الجنرال انطوني زيني ومساعده لشؤون الشرق الاوسط وليم بيرنز ان يفعلا في مواجهة اندفاعات شارون الارهابية؟

طبعا ليس من الواضح بعد، ما هو الايقاع الاميركي الذي سيستعمله المبعوثان في سعيهما لترجمة خطاب باول الذي لم يضع في الواقع ابجدية مكتملة للحل على المسار الفلسطيني وان كان قد اضاف على نحو واضح بعضا من الحروف اللافتة في سياق المساعي الديبلوماسية الاميركية.

ولا ندري اذا كان بيرنز صاحب الاطلاع الجيد وزيني صاحب الصرامة الجيدة قادرين على تغيير العادات التي جعلت كثيرين في المنطقة، سواء في اسرائيل او في الدول العربية، يقولون انهما سينضمان في النهاية الى قائمة طويلة من الموفدين الاميركيين، الذين فشلوا في ازالة العراقيل الاسرائيلية الكأداء من امام مسار التسوية، ولكن من الواضح تماما انهما يحظيان بظروف افضل من السابق وبمناخ سياسي اميركي احسن نسبيا مما كان عليه الوضع منذ بداية عهد جورج بوش.

وهكذا يطير الرجلان اليوم الاحد الى المنطقة ويبدآن مهمة متواصلة غدا الاثنين وسط آمال مشوبة بكثير من الشكوك والريبة والمخاوف.

وهذه المشاعر كانت قد بدأت بالظهور منذ اكثر من اسبوعين، خصوصا عند الفلسطينيين وفي العواصم العربية، بعد اعلانات كولن باول المتلاحقة، التي حرص ان يوضح عبرها ان ليس هناك «مبادرة اميركية» كاملة تتضمن خطة تنفيذية للحل، كما كان قد اوحي به من قبل، لأن واشنطن تملك اصلا «خطة رائعة» يوافق عليها الجميع وهي «تقرير ميتشيل»! طبعا لا داعي الى الوقوف كثيرا، امام ذلك المزيج المثير من «الغموض والرومانسية» الذي ظهر في خلفية خطاب باول، خصوصا عندما قرن الحديث عن «رؤية اميركية» للشرق الاوسط بالحديث عن «استعادة روح مدريد»، ففي ظل ما تثيره الرؤى والارواح، قد يجد البعض من المشككين عن حق، وما اكثرهم، ان الشرق الاوسط كان مع «الاميركي غودو» الذي طال انتظاره ولم يصل، ويكاد يصير الآن مع البصـّارين والبراجين.

على ان مقتضيات الواقع تستدعي بداية ان تتوافر الحدود الدنيا من عدالة المطالب في موضوع الاجراءات التي يفترض ان تتخذ اولا لتنفيذ «ورقة تينيت» التي وضعت اساسا لتنظيم وقف النار، فأفسدها شارون مع كولن باول شخصيا، عندما وافق هذا الاخير على فكرة «اسبوع التهدئة»، الذي يجب ان يسبق العد العكسي لفترة الاسابيع الستة لوقف النار والتي تؤسس لفترة مماثلة لاستعادة الثقة، تنتهي باستئناف المفاوضات بين الطرفين.

والحديث عن عدالة المطالب يقود فورا الى سؤال جوهري واساسي، خصوصا الآن في مؤازة استئناف التحرك الاميركي وهو:

هل يجوز ان تقتصر المطالبة ببذل مئة في المئة من الجهود على ياسر عرفات وحده؟ واين المئة في المئة من الجهود الاميركية مثلا؟

واذا كان استئناف السعي الاميركي لدفع التسوية واحياء روح مدريد يشكل استعراضا كبيرا ومشوقا في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة بعد 11 ايلول (سبتمبر) على خلفية التداعيات الكبرى التي تترتب من الملف الافغاني في العالم العربي، فهل من العدل في شيء ان يكون مطلوبا من عرفات وحده بذل 100 في المئة من الجهد لوقف العنف (اي عمليا لوقف الانتفاضة)؟

وعلى افتراض انه قبل ان يقدم وصلة الرقص الفردي ولو على طريقة الطير... مذبوحا من الالم فهل سيتيح له شارون النجاح في هذا، ام انه سيواصل كالعادة فصول مذبحته المفتوحة ضد الفلسطينيين بحيث لن يكون في وسع عرفات أبداً وقف عنف الضحية تتلوى على ايدي الجلادين؟

ولماذا لا يتذكر باول وبوش ايضا الذي كرر في اليوم التالي للخطاب دعوته عرفات الى وقف العنف كمقدمة لتحريك الحل، لماذا لا يتذكران ان في وسع «الاستعراض الاميركي» ان يبدأ فورا من دون انتظار وصلة عرفات الافتتاحية، التي يفترض ان تستمر اسبوعا كاملا، اذا قررا فعلا بذل 100 في المئة من الجهد الاميركي، ويكفي في هذا المجال ان يتذكرا ماذا فعل جورج بوش الاب ووزير خارجيته جيمس بيكر قبل نحو من عشرة اعوام، عندما مارسا ضغوطا حقيقية على اسحاق شامير ومن بعده اسحق رابين فامتنعا عن تقديم ائتمانات قروض قيمتها 10 مليارات دولار لاسرائيل لتنفقها في بناء المستوطنات، و هو ما ادى الى قبول رابين مبدأ «الارض مقابل السلام» الذي شكل اساسا لمؤتمر مدريد؟

لا داعي طبعا للتذكير بما فعله دوايت ايزنهاور عام 1956 مع غولدا مائير، عندما فرض عليها الانسحاب من سيناء فرضا بعد العدوان الثلاثي على مصر، ربما لأن اميركا في زمن ايزنهاور هي غير اميركا في زمن آل بوش، لكن هذا لا يعني ان المئة في المئة من جهود اميركا لا تستطيع ان تصنع حلا في الشرق الاوسط، ولا يعني ايضا ان «روح مدريد» النائم وربما الميت لم يكن لينام او ليموت لو كانت واشنطن قد بذلت 50 في المئة من الجهد على الاقل! ولكي يكتمل نصاب الكلام نقول ان من الضروري ان لا يبذل شارون اي جهد على الاطلاق، لأن جهوده تنصب في شكل كامل على تخريب التسوية، وهو لن يتوانى أبداً عن السعي الى دفن «الرؤية الاميركية» والمساعي المبذولة جنبا الى جنب مع اسحق رابين.

في اي حال، ان الرؤية التي قدمها باول كاطار للتسوية حرصت على ارضاء الاسرائيليين والفلسطينيين كما هو معروف، حيث اعطت كلا من الطرفين بعضا مما يرضيه، ولكنها لم توفر عليهما حتمية الاشتباك الذي قد يطيح بكل شيء عندما يحين وقت الملفات المعقدة والصعبة في مسألتي القدس وعودة اللاجئين.

ان الحديث عن ضرورة قيام دولة فلسطين لا يضيف شيئا جديدا، لكنه يرسخ كلاما سابقا بهذا المعنى، والجديد ان القرارين 242 و338 يشكلان اساسا لتحديد جغرافيا هذه الدولة. كذلك ان الحديث عن ضرورة انهاء الاحتلال وعن حتمية وقف الاستيطان الذي يشكل عقبة تعوق السلام، كل هذا لاقى ترحيبا فلسطينيا يوازي الترحيب الاسرائيلي باعتبار الانتفاضة حركة ارهاب، على عرفات ان يوقفها، وبتشديد باول على «ضرورة قبول الفلسطينيين بكون اسرائيل دولة يهودية» (!) وهذا ما يسقط تلقائيا حق العودة الى اسرائيل ويحصره بأراضي الدولة الفلسطينية.

اما في ما يتعلق بموضوعي القدس والحل النهائي لمسألة اللاجئين وهما جوهر اساسي في النزاع، فقد احيلا على المفاوضات النهائية بين الطرفين، ولكن هذا لا يعني تكرارا انهما لن يحتاجا عندها الى 100 في المئة من الجهود الاميركية، وهذا أمر ليس مضمونا تماما وخصوصا ان من حق الفلسطينيين والعرب النظر بكثير من الريبة الى مقاربة خطاب باول لمسألة القدس، حيث كان بوش قد اشار الى المشاركة في القدس كعاصمة للدولتين ولكن هذه النقطة قد اسقطت من خطاب وزير خارجيته.

وربما جاء اسقاطها على خلفية ضغوط اسرائيلية قوية بذلك عشية القاء الخطاب، حيث وجه 89 عضوا في مجلس الشيوخ رسالة الى بوش طالبوه فيها بعدم القاء اللوم على اسرائيل نتيجة تدهور الاوضاع في فلسطين المحتلة.

في اي حال هناك الآن زاويتان للنظر الى «الرؤية الاميركية» التي يقدمها باول:

الزاوية الأولى: التي لا تدعو الى كثير من التفاؤل وخصوصا اذا كان المطلوب دفع عرفات الى وقف الانتفاضة وانهاء العنف تحت شعار بذل الجهود والوفاء بالالتزامات، لأن من غير المعقول على الاطلاق مطالبة من يتلقى الضرب بأن يتوقف عن الضرب! اما الزاوية الثانية: فتظل على مشهد بانورامي في موضوع التسوية، حيث هناك مؤشرات متزايدة على تبلور صفقة دولية شاملة تشرف عليها اميركا بالتعاون مع المجموعة الاوروبية وروسيا والامم المتحدة، وبحسب المعلومات المتوافرة في تقارير ديبلوماسية وردت اخيرا الى الشرق الاوسط، فإن على عرفات وقف العنف واعتقال المطلوبين في وقت تبدأ ضغوط تصاعدية على اسرائيل، للاعتراف فورا بدولة فلسطينية والبدء بالتفاوض معها لاقرار الحل النهائي... مجرد معلومات سيكفل الوقت اظهار مدى صحتها!