تهميش النفط العربي: وقائع واحتمالات .. وتلويح روسي بالإغراءات

TT

يشكل الغزل الروسي للغرب والولايات المتحدة تحديدا عاملا يستحق متابعة يقظة لما يمكن أن يحدثه من تاثير في المعادلات الدولية، ومن هذه جبهة النفط، التي وفرت للمنطقة العربية ثقلا استراتيجيا على الساحة الدولية، كما وفرت لها عائدات مالية مكنتها من التقدم على طريق تنمية بلدانها، بل وفتحت الباب امام تبادل للهجرات البشرية بين الدول العربية لم تعرفها في تاريخها الحديث.

فأحد الاغراءات التي تعرضها روسيا ان تصبح موردا للامدادات النفطية بديلا عن منطقة الشرق الاوسط المشهورة بتقلباتها السياسية وانعكاسات ذلك السلبية على السوق النفطية امدادات واسعارا، وذلك في اطار مسعاها الى اللحاق بالغرب.

ويستحسن بداية رسم صورة لواقع الصناعة النفطية الروسية قبل مناقشة احتمالات استخدامها وسيلة لتهميش نفط منطقة الشرق الاوسط والعربي منه على وجه الخصوص.

يلعب قطاع النفط دورا رئيسيا في الاقتصاد الروسي، اذ يشكل نحو 40 في المائة من صادرات البلاد و13 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي، الامر الذي يجعل للتذبذب في الاسعار انعكاساته على الوضع الاقتصادي الداخلي، وليس ادل على ذلك من ان اي انخفاض في الاسعار العالمية بمقدار دولار يعني خسارة الخزينة العامة مبلغ مليار دولار في العام. وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي سابقا وبعد فترة الاضطراب الاولى لاعادة هيكلة البلاد واكمال فصل الجمهوريات السابقة التي اصبحت دولا مستقلة، اتجهت الجهود لترتيب الوضع الاقتصادي وعلى راسه قطاع النفط بسبب المكانة المحورية التي يحتلها. وبما ان السلطة اعتمدت اسلوب التخصيص وسيلة لانعاش الوضع الاقتصادي المتدهور، فانها اتجهت ومنذ عام 1993 الى معالجة وضع الصناعة النفطية عبر خطوتين اولاهما تكوين شركات عامة وطرح اسهمها في السوق فيما بعد، وعلى راس هذه الشركات «لوك اويل» التي تعتبر اكبر شركة نفط في روسيا في الوقت الحالي كونها تملك احتياطيات نفطية تصل الى 15 مليار برميل وانتاج يومي في حدود 1.5 مليون برميل يوميا.

اما المرحلة الثانية فقد بدأت بعد ذلك بعامين عندما بدات الحكومة بالتخلص من اسهمها في هذه الشركات وطرحها للبيع على المستثمرين محليين واجانب، وهي العملية التي لا تزال مستمرة الى اليوم بدرجات متفاوتة من النجاح، لكنها لم تستطع جذب استثمارات غربية ضخمة. ويظهر هذا في انه طوال فترة العقد الماضي نجحت الصناعة النفطية الروسية في جذب مبلغ عشرة مليارات دولار فقط.

ويعود ذلك الى عدم النجاح في توفير البيئة الاستثمارية التي تحكمها ثقافة قانونية مفصلة وواضحة الى جانب ارث التدخل الحكومي الطاغي.

مع الناحية الاخرى فان الاتجاه العام للبلاد يدفع نحو تشجيع التصدير والاستفادة من حجم الاحتياطيات المؤكدة التي تتراوح بين 49 و55 مليار برميل. ويظهر ذلك في ان حجم الصادرات الذي كان 3.9 مليون برميل يوميا عام 1999، ارتفع الى 4.3 مليون العام الماضي والى 4.7 مليون هذا العام، الامر الذي وضع روسيا في المرتبة الثانية تصديرا للنفط الخام بعد السعودية.

على ان المنافذ التي يتم عبرها التصدير تعاني من بعض الاختناقات، فهناك ثلاثة منافذ، حيث تذهب بعض الصادرات عبر بحر البلطيق ودوله الثلاث استونيا، لاتفيا وليتوانيا، التي كانت تتبع الاتحاد السوفياتي السابق واول من حقق استقلاله عنه، وهناك ايضا البحر الاسود، كما تمر صادرات اخرى عبر تركيا ومضيق البسفور المزدحم ويخشى الكثيرون ان يؤدي الى كارثة بيئية. وفي مسعى لتغيير هذا الوضع يجري حاليا بناء خط انابيب الى بحر البلطيق بدلا من الاعتماد على موانئ الدول الثلاث وهناك مفاوضات لبناء خط انابيب ينقل النفط الروسي الى الصين، كما تنشط الجهود لدعم الصناعة النفطية في منطقة سخالين، ومد خطوط انابيب منها الى الصين واليابان.

الصادرات النفطية الروسية حققت لها تغيرا في نوعيتها، اذ اصبحت تتجه الى بلدان اوروبا الغربية متحولة بذلك من سوقها الرئيسي سابقا وهو الجمهوريات الروسية السابقة ودول شرق اوروبا. واصبحت دول مثل بريطانيا، فرنسا، المانيا وايطاليا تاتي على راس قائمة المستوردين، ونتيجة لهذا ارتفعت حصة دول غرب اوروبا من الصادرات النفطية الروسية الى 87 في المائة العام الماضي من 54 في المائة عام 1992.

وإلى جانب النفط، هناك الغاز الطبيعي، حيث تعتبر روسيا صاحبة اكبر احتياطي مؤكد منه ويقدر بنحو 1700 ترليون قدم مكعب. وتسيطر شركة «غاز بروم» التي تملكها الدولة على صناعة الغاز. ويبلغ حجم الانتاج السنوي نحو 20 ترليون قدم مكعب يستهلك منه داخليا 14 ترليونا ويصدر الباقي، حيث ارتفع حجم الصادرات من 6.8 ترليون قدم عام 1999 الى 7.1 ترليون العام الماضي. ومثل النفط كانت معظم صادرات روسيا من الغاز تتجه الى دول شرق اوروبا والجمهوريات السابقة كوسيلة لدعم هيمنتها السياسية على تلك المنطقة. لكن بعد تفكك الاتحاد السوفياتي والحاجة الى العملات الصعبة وبناء مصلحة مشتركة مع الغرب، بدات صادرات الغاز تتصاعد في اتجاه دول اوروبا الغربية وعلى حساب الزبائن السابقين الذين تراكمت عليهم متاخرات في دفع قيمة مشترياتهم التي بلغت ملياري دولار. وبين عامي 1992 و1999 تراجعت صادرات الغاز الروسية الى الجمهوريات المستقلة بنسبة 27 في المائة في الوقت الذي تصاعدت فيه بالنسبة لدول غرب اوروبا بنسبة 35 في المائة. ويقدر ان صادرات روسيا من الغاز الى اوروبا بلغت العام الماضي 4.5 ترليون قدم مكعب، وتشكل حوالي 20 في المائة من الاحتياجات الاوروبية من الغاز. وهناك خطط لرفع هذه الكميات الى ما بين 6.2 ترليون الى 7.2 ترليون بحلول عام 2007. ويذكر ان جهود روسيا الى ان تصبح مركز امداد رئيسيا للغاز الى اوروبا الغربية تعود الى قبل عقدين من الزمان، لكنها ووجهت بمعارضة قوية من ادارة الرئيس الاسبق رونالد ريغان، الذي راى فيها اضعافا لحملته الشرسة ضد امبراطورية الشر الهادفة الى تقويض تلك الامبراطورية بمختلف السبل.

الغاز الطبيعي يمتاز بخاصتين رئيسيتين هما انه يعتبر اكثر نظافة من النفط وبالتالي اقل تلويثا للبيئة، الامر الذي يجعله اقل عرضة الى التمييز السياسي والضريبي، وثانيهما انه يحتاج الى خطوط انابيب من المنبع او دول الانتاج الى المصب، اي دول الاستهلاك، الامر الذي يتطلب علاقات قوية تحكمها المصلحة والرؤية المشتركة.

وكان هذا مبعث خوف ريغان ان تصبح اوروبا تحت رحمة موسكو وتؤثر فيها بالتالي. لكن مع التغييرات التي حدثت واتجاه روسيا الى الاخذ بالمفاهيم الغربية في السياسة والاقتصاد، وهو ما اصبح يعبر عنه في علاقتها بحلف الاطلسي بصيغة الناتو زائد واحد، اي روسيا بدلا من الناتو ضد واحد، التي كانت سائدة حتى مطلع هذا العام بسبب تراث العداوة السابق الذي حلت محله مناخات الشك بين الطرفين.

وفي الاسبوع المقبل نستعرض انعكاسات كل ذلك على الصناعة النفطية العربية.