خطوتان بعد خطاب باول

TT

تظهر ردود فعل اسرائيل الاولى على الخطاب المنتظر طويلا لوزير الخارجية الامريكي كولن باول حول سياسة بلاده تجاه الشرق الاوسط صعبة لانعاش الجهود الرامية الى تحقيق السلام.

وكان خطاب باول، كما اشارت الوعود، بيانا لرؤية الولايات المتحدة لسلام شامل، فقد تضمن كل العناصر: أمن اسرائيل والاعتراف بها، ودولة فلسطينية مستقلة وقابلة للنمو، واتفاقات سلام اقليمية وسلام اوسع في الشرق الاوسط يعد بتحقيق مستقبل اكثر تقدما لجميع شعوب المنطقة.

وبينما لم يتضمن «خطاب الرؤية» اختراقات مفاجئة، فقد عكس الخطاب المتطور مناقشات السياسة الامريكية للاهتمامات الفلسطينية، فالولايات المتحدة تدعو الى «ضرورة انهاء الاحتلال» الاسرائيلي، و«ايقاف النشاط الاستيطاني»، والاعتراف بحق الفلسطينيين في «تقرير المصير» واقامة دولة، وهو ما ينبغي النظر اليه، جميعاً باعتباره تطورات ايجابية. (استطيع ان اتذكر التهديد الذي تعرضت له بالنبذ السياسي بسبب استخدامي لغة مماثلة قبل ثلاثة عشر عاما فقط).

وقد ركز المعلقون الاسرائيليون والعرب على غياب الآليات والجداول الزمنية في الخطاب. وبينما اعلن الاسرائيليون هذا باعتباره انتصارا لمصالحهم، نظر اليه العرب باعتباره نقطة ضعف اساسية في مسعى باول، غير ان كلتا وجهتي النظر قد تكونان مبتسرتين.

فهذه المسائل المرتبطة بالعملية عوملت بدهاء من جانب الوزير، جزئيا لتجنب رفض مباشر لمسعى ادارة بوش الجديد نحو تحقيق السلام. واتخذ هذا التعامل شكلين.

فمن ناحية اكد باول ان خطابه هو رؤية وليس خطة لعملية. ولاحظ ان العملية موجودة في شكل تقرير وتوصيات اللجنة التي ترأسها السناتور الامريكي السابق جورج ميتشل. وتستند الخطة الى مبادئ وصيغ اتفق عليها الاسرائيليون والفلسطينيون في مدريد واوسلو.

وقد جرى احباط تنفيذ اقتراح ميتشل لاعادة الطرفين الى المفاوضات باصرار اسرائيل على انها لن تفكر في أية مناقشات مع الفلسطينيين الا بعد سبعة ايام من السلام المطلق وستة اسابيع من «فترة تهدئة». وقد جمد قبول الولايات المتحدة لهذا الطلب الاسرائيلي، من الناحية الواقعية، العملية وحكم على الطرفين بالصراع المستمر.

وبدلا من التحدي المباشر لهذا الطلب الاسرائيلي، الذي تقول مصادر معنية ان باول يعتقد، الآن، ان الولايات المتحدة أخطأت في قبوله، قام باول أول الأمر بارسال الجنرال المتقاعد انطوني زيني الى الشرق الاوسط لدفع الطرفين الى التحرك السريع نحو وقف اطلاق النار واستئناف المفاوضات بدون شروط مسبقة.

ويعتبر تكليف زيني بهذه المهمة امرا هاما ومثيرا للانتباه لاسباب عدة، فهو جنرال من القوة البحرية وصارم وذكي، ويمتلك قدرة كبيرة على اتخاذ قرارات حازمة. كما انه يعرف المنطقة، فقد عمل باعتباره رئيس اركان القيادة المركزية الامريكية. وكان خطابه العلني الاول بعد تركه هذا المنصب مناقشة واسعة المدى لقضايا الشرق الاوسط كشف فيها الجنرال عن فهم عميق لمصالح الولايات المتحدة وكذلك لاهتمامات العرب.

ويعتبر دور زيني مثيرا للاهتمام لسبب آخر، فارتباطا باقامته علاقات عمل وثيقة مع دول عربية رئيسية تمتد من مصر الى الخليج، تجعله قادرا على تحقيق تحول ضروري في آفاق مسعى تحقيق السلام في الشرق الاوسط. فقد كان المبعوثون السابقون الى الشرق الاوسط يرون المنطقة عبر منظار النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني. اما زيني فيري ذلك النزاع عبر منظار المصالح الامريكية والاهتمام الاوسع بالمنطقة.

اما السبب الاخير والاكثر اهمية فيتمثل في ان زيني شخصية رفيعة المستوى تتمتع بثقة واحترام وزير الخارجية والرئيس الامريكي. واذا كان لامرئ ان يقوم بالعمل الكبير المطلوب لتحويل رؤية باول الى عملية واقعية، فان هذا المرء هو الجنرال زيني.

وكما اشرت في البداية، فان زيني سيجد العمل الذي يناسب مؤهلاته. ومن الصحيح القول، كما لاحظ باول، انه يجب ايقاف العنف، الذي اصبح متواصلا ومزمنا، حتى يبدأ احلال السلام، غير ان ما هو اكثر اشكالا من ايقاف العنف سيكون معالجة عناد اسرائيل وتصلبها. وفي هذه الناحية تكشف ردود فعل اسرائيل الاولى على خطاب باول، على نحو لا لبس فيه، عن صعوبات هذه المهمة.

وحتى قبل ان يلقى الخطاب، وفي محاولة لاستباقه، وجه اصدقاء اسرائيل في مجلس الشيوخ الامريكي رسالة قوية الى الرئيس جورج بوش تحذره من ممارسة ضغط على اسرائيل. واثنت الرسالة، التي وقعها 89 من اعضاء مجلس الشيوخ الذي يضم 100 عضو، على الرئيس بوش لعدم لقائه مع رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات. واكدت ألا تتخذ الادارة اية خطوات تقيد اسرائيل وتمنعها من توجيه ضربات للفلسطينيين.

وتصرف رئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون نفسه، ايضا، قبل خطاب بوش، مجددا إصراره على عدم اجراء محادثات مع الفلسطينيين ما لم يلبوا شرطه المتمثل في حلول سبعة ايام متواصلة من الهدوء المطلق، و«فترة تهدئة» لستة اسابيع. وبعد يوم من القاء باول خطابه، عبر شارون، مرة اخرى، عن رد فعله بارتكابه عملين من المؤكد انهما اثارا غضب الفلسطينيين. فقد دمر 18 منزلا فلسطينيا في غزة واعلن بناء مستوطنة جديدة في قلب الخليل.

ويبدو ان شارون لم يتخل عن سعيه البعيد المدى لتدمير الحركة الوطنية الفلسطينية، فرؤيته لـ«دولة» فلسطينية تتمثل في سلسلة من المناطق شبه مستقلة ذاتيا ومحاطة باراض تسيطر عليها اسرائيل. وما يزال يسعى الى تدمير السلطة الفلسطينية واستبدال زعماء محليين بها سيذعنون لقبول الرؤية الاسرائيلية للسلام.

ان الصراع سينشأ، الآن، في اعقاب خطاب باول بين الرؤى المتنافسة على المستقبل. ومن المهم ادراك ان الرؤيتين الامريكية والفلسطينية تتقاربان في الوقت الحالي، على الاقل في خطوطهما العامة. اما الرؤية المتخلفة عن غيرها فهي رؤية حكومة الليكود في اسرائيل.

ولهذا يتعين على العرب ان يستجيبوا لخطاب باول ببيان رؤية تكاملية خاصة بهم. ويجب ان يوسع هذا التعبير خطاب باول ويقدم التفاصيل التي يفتقر اليها والخطوات الضرورية لتحقيق سلام شامل.

ومن الضروري لبيان الرؤية العربية ان يخاطب الرأي العام الاسرائيلي في مسعى لابعاد المزيد من الاسرائيليين عن الحلول المتطرفة التي تقترحها زعامتهم الحالية. ويجب على بيان الرؤية العربية ان يوضح بشكل لا لبس فيه الكيفية التي يرى بها العرب مستقبل المنطقة، ومستقبل علاقتهم مع اسرائيل، والخطوات الملموسة التي تحتاج جميع الاطراف الى اتخاذها لنقل المنطقة مما هي عليه الآن الى اتفاق سلام شامل.

ومن العسير على المرء ان يكون متفائلا بعد كل احباطات العقد الماضي وآلامه، غير ان مبادرة الوزير باول تتطلب منا جميعا ان نتخذ نظرة جديدة الى امكانية تحدي الوضع القائم وتغييره.

لقد دار العنف دورته. ويجب على اسرائيل ان تعرف انه ليس بامكانها فرض ارادتها وتحطيم الرغبة الفلسطينية في العيش كشعب حر ومستقل. وفي الوقت ذاته يجب ان يكون واضحا، على نحو شاق ان الاسرائيليين لن يرغموا على انهاء احتلالهم عبر التفجيرات واطلاق النار، او حتى الأحجار.

لقد قدم باول بداية جديدة واعدة، ويتمتع الجنرال زيني بالطاقة والبراعة على دفع هذه المبادرة الى الأمام. وقد رفض رئيس الوزراء شارون هذا المسعى بأسلوب مميز، وهكذا فان الميدان مفتوح امام العرب لاتخاذ الموقف المتقدم الذي يتميز برد الفعل الايجابي والذي يمكن ان يفعل فعله في تحويل الرأي العام الامريكي والاسرائيلي. انه يمكن ان يعزل المتطرفين ويمهد الطريق امام تغيرات يمكن ان تجعل من عملية سلام متجددة امكانية قائمة.

* رئيس المعهد العربي ـ الامريكي [email protected] or http://www.aaiusa.org.