إلى أين تتجه السوق البترولية العالمية؟

TT

تمر السوق البترولية الدولية حاليا بمرحلة صعبة، وبالذات خلال العام القادم، ولن ينقذ السوق من هذا الوضع المتردي إلا تعاون كافة المنتجين من داخل منظمة الاوبك وخارجها.

وتعود الصعوبة التي تواجهها السوق حاليا والمحتملة العام القادم الى عاملين اساسيين، الاول تردي الاقتصاد العالمي مما ادى الى انخفاض نمو الطلب على البترول، والعامل الثاني زيادة الانتاج من خارج الاوبك بعد ارتفاع الاسعار خلال الاشهر الثمانية والعشرين الماضية.

فمن المعروف ان الاقتصاد العالمي، وبالذات الاقتصاد الامريكي، الذي يعتبر الاكبر والاكثر تأثيرا، كان يمر بمرحلة تباطؤ في نموه، منذ أواخر العام الماضي واوائل العام الحالي. وكان الاعتقاد ان ما كان يجري هو تباطؤ في النمو وليس حالة كساد اقتصادي، وبالامكان تحفيز النمو الاقتصادي من خلال بعض السياسات المالية مثل تخفيض اسعار الفائدة، وتخفيض الضرائب، وزيادة الانفاق.. ومن هنا ساد الاعتقاد بأن الاقتصاد العالمي سيعود الى وضع النمو الجيد خلال الربع الرابع من هذا العام. وبعد ذلك ينمو حسب معدلاته السابقة.

وبالنسبة للبترول فقد كانت التوقعات تشير الى ان الانخفاض في الطلب على البترول مؤقت وخلال الاشهر التسعة الاولى من هذا العام على الاكثر، وبعد ذلك يعود الطلب الى الارتفاع مع زيادة معدل نمو الاقتصاد العالمي، ولهذا السبب قررت دول الاوبك تخفيض انتاجها منفردة وبحوالي 3.5 مليون برميل يوميا، اعتقادا انه سيتم رفع الانتاج في وقت لاحق في أواخر عام 2001، او في اوائل عام 2002، أي ان يتم التخفيض ثم الزيادة حسبما حصل في عامي 1999و 2000، وذلك حسب ظروف العرض والطلب ومن اجل المحافظة على استقرار السوق والمستوى المناسب من الاسعار.

أي ان الاوبك كانت لوحدها وبدون مساندة المنتجين الآخرين تقوم بدور المنتج المرجح، والذي يعني زيادة الانتاج او خفضه حسب ظروف العرض والطلب ومن اجل استقرار الاسعار.

إلا ان احداث 11 سبتمبر والتطورات التي تلتها، اثرت بشكل كبير ليس فقط على الاقتصاد العالمي ونموه، بل على الطلب على البترول بشكل خاص، فالاقتصاد الامريكي تحول من مرحلة الركود الاقتصادي الى مرحلة الكساد، كما ان اقتصاديات كثيرة وهامة تحولت الى حالة من الكساد مثل اليابان، وتايوان، وسنغافورة، واستراليا، والمانيا، وايطاليا، واسبانيا. ويبدو ان الصين والهند فقط، هما الدولتان اللتان قد تشهدان نموا اقتصاديا واضحا خلال هذا العام والعام القادم. وقد تشهد بعض الدول الأخرى بعض النمو ولكنها ذات اقتصاديات صغيرة نسبيا او ان اقتصادياتها مرتبطة بالبترول مثل بعض دول الاوبك وروسيا وغيرها.

لا شك ان النمو الاقتصادي السلبي يؤثر في الطلب على البترول.. فالطاقة بشكل عام والبترول بشكل خاص يرتبط استهلاكه بالوضع الاقتصادي لأي بلد، ومن هنا فإن نمو الطلب على البترول مرتبط بنمو الاقتصاد في هذه البلاد او تلك.

وقد اثرت احداث 11 سبتمبر بشكل خاص على استخدام البترول ولسبب آخر.. فقد أدى استخدام الطائرات المدنية لتدمير مبنيي مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاجون، الى عزوف كبير عن استخدام الطائرات كوسيلة للسفر.. ومن المعروف ان الطائرات تعتبر من اهم وسائل السفر العالمي حاليا، كما انها من اهم مستخدمي المنتجات البترولية. وتشير التوقعات الاولية انه نتيجة لاحداث 11 سبتمبر وما تبعها من احداث أخرى في الطيران العالمي، فإن استخدام وقود الطائرات سينخفض خلال الربع الرابع من هذا العام بما بين 400 الى 500 الف برميل يوميا، وهي كمية ليست بسيطة، بل انها تعادل او تفوق انتاج او تصدير العديد من الدول المعتمدة على البترول كمصدر اساسي للدخل مثل سوريا، واليمن، والجابون، والاكوادور، وصادرات اندونيسيا وغيرها.

اضافة الى ذلك، فإن احداث 11 سبتمبر اثرت على السياحة العالمية بشكل كبير، ويقدر حاليا الانخفاض في قطاع السياحة بحوالي %70 في دول مثل الشرق الاوسط ومنطقة الكاريبي و%30 في اوروبا وامريكا.. ولا شك ان قطاع السياحة يعتبر من اهم القطاعات الاقتصادية وذي كثافة عالية في استخدام الطاقة بشكل عام والبترول بشكل خاص.. ومن المهم الاشارة هنا وعلى سبيل المثال، ان قطاع السياحة يعتبر المورد الثاني للدول العربية بعد البترول، اذ يحقق دخلا يصل الى حوالي 60 بليون دولار سنويا، ويعمل فيه اكثر من خمسة ملايين فرد، فإذا اضيف الى ذلك من يعيلونهم فإن عدد الافراد العرب المعتمدين على قطاع السياحة يصل الى ما لا يقل عن 20 مليون نسمة.

ومما سبق يتضح ان وضع الطلب على البترول كان صعبا منذ بداية هذا العام، وازداد الامر صعوبة بعد احداث 11 سبتمبر.. وفي وضع حرج مثل هذا، لا تستطيع دول الاوبك، والتي لا يتعدى نصيبها %40 من الانتاج العالمي موازنة العرض والطلب، واستقرار الاسعار.. اضافة الى ذلك فإن لدى المنظمة تجربتين باهظتا الثمن، الاولى عندما سعت المنظمة الى المحافظة على السعر عن طريق التخفيض المستمر في الانتاج، خلال النصف الاول من الثمانينات، وكانت نتيجة هذا انخفاض انتاج المنظمة من حوالي 31 مليون برميل يوميا في عام 1979 الى 15 مليون برميل يوميا بعد ذلك بستة اعوام، ثم أعقب ذلك انهيار الاسعار الى اقل من عشرة دولارات بعد ان كانت خمسة وثلاثين دولارا او اكثر، اي ان المنظمة فقدت حصتها في السوق وفقدت دخلها، وقد حدث هذا نتيجة لعدة عوامل لعل من اهمها زيادة الانتاج من خارج الاوبك، في وقت كانت المنظمة تركز على السعر ولا تعير اهمية تذكر لما يفعله الآخرون من زيادة الانتاج، وما يعنيه من فقدان للحصة في السوق.

أما التجربة الصعبة الثانية فقد حدثت في عام 1998، وكانت نتيجة لزيادة الانتاج من قبل بعض الدول من خارج الاوبك وداخلها، مما ادى في النهاية الى ارتفاع المخزون التجاري من البترول، ثم انهيار الاسعار بعد حدوث الازمة الاقتصادية الآسيوية مباشرة.. وبالرغم من ان الاوبك وبمساندة من بعض الدول من خارج المنظمة مثل المكسيك، وعمان، والنرويج، قامت بإجراء عدة تخفيضات وصلت كمياتها الى اكثر من اربعة ملايين برميل يوميا، الا ان الاسعار لم تسترد عافيتها الا في النصف الثاني من عام 1999، ويعود التباطؤ في تحسن الاسعار، بالرغم من الكميات الكبيرة التي تم سحبها من السوق، وفي وقت يرتفع فيه الطلب العالمي، الى ارتفاع المخزون التجاري من البترول الى مستويات كبيرة، تحتاج الى مجهود كبير ووقت طويل لسحبه.

ومن خلال التجارب السابقة فإن هدف الاوبك حاليا هو استباق الاحداث والعمل بقدر الامكان على تجنب انهيارات بترولية وازمة جديدة في الاسعار، وذلك من خلال تعاون كافة الدول المنتجة، والتضحية ولو بشكل بسيط ومؤقت من الانتاج او التصدير، وعلى امل تطور الاوضاع ايجابيا في المستقبل، واستعادة ما تمت التضحية به.

فلا شك ان الدول المنتجة من خارج الاوبك قد استفادت من تحسن اسعار البترول خلال العامين الماضيين، وبدون اي تضحيات تذكر.. ومن هنا فقد زاد انتاج هذه الدول بحوالي مليوني برميل يوميا بين عام 1999، وهذا العام، ونصف هذه الزيادة تقريبا، اي حوالي مليون برميل جاءت من روسيا لوحدها. وفي نفس الوقت انخفض معدل انتاج دول الاوبك خلال هذه الفترة بحوالي مليون برميل يوميا. اي ان الانخفاض في انتاج الاوبك يعادل تقريبا الزيادة في انتاج روسيا.

وبالنظر الى العام القادم اي عام 2002، من السهل ملاحظة ان الوضع سيكون اكثر صعوبة، فالطلب العالمي لن يرتفع الا بشكل بسيط وفي حدود 500 ـ 700 الف برميل يوميا، حسب اغلب التوقعات الحالية.. وفي نفس الوقت فإن انتاج الدول من خارج الاوبك من المتوقع ان يرتفع بما بين 800 الى مليون برميل يوميا، ونصف هذه الزيادة من روسيا، ويحدث هذا في وقت يعتبر المخزون التجاري مرتفعا نسبيا، ومن المتوقع ان يرتفع كذلك خلال الاشهر القادمة وربما في فصل الشتاء الذي عادة ما ينخفض فيه المخزون نتيجة لزيادة الاستهلاك.

وفي وضع مثل هذا، يتميز بوجود ازمة اقتصادية عالمية وبانخفاض نمو الطلب على البترول، وزيادة الانتاج وبالذات من قبل الدول من خارج الاوبك، وارتفاع المخزون نسبيا، فلا بد من تضافر الجهود وتعاون كافة الدول المنتجة الرئىسية للبترول، وبالذات الدول التي يعتمد او يتأثر اقتصادها بأسعار البترول.

فخلال الاجتماع الوزاري لمنظمة الاوبك في 26 سبتمبر الماضي، ادركت المنظمة، ان دولها لا تستطيع لوحدها حماية الاسعار من الانخفاض، فلا بد من مشاركة الدول المنتجة الأخرى.. ولهذا السبب صرف النظر عن التخفيض المباشر للانتاج عند انخفاض الاسعار الى اقل من 22 دولارا للبرميل من سلة الاوبك، وفي نفس الوقت بدأت الاتصالات وبشكل مباشر مع الدول الرئيسية المنتجة للبترول من خارج الاوبك.. وقد أبدت كل من عمان، والمكسيك، استعدادهما للمشاركة في اي تخفيض جديد للانتاج وبنفس نسبة التخفيض التي تتخذها الاوبك، كما اوضحت انجولا ان انتاجها اذا لم ينخفض فإنه لن يرتفع خلال العام القادم.. اما النرويج فقد ابدت استعدادها لاتخاذ ما هو مناسب لاعادة الاستقرار للسوق والاسعار، بما في ذلك التخفيض بما بين 100 الى 200 الف برميل يوميا.

وكان من المتوقع ان تتعاون روسيا بشكل تام وتلقائي، وبالذات انها ثاني اكبر دولة منتجة وثاني اكبر دولة مصدرة للبترول، ويرتبط اقتصادها ووضعها المالي بأسعار البترول. وبالطبع فإن درجة تعاون دولة مثل روسيا من المفروض ان يعكس وضعها النسبي في السوق البترولية الدولية، اي ان نسبة تخفيضها يجب ان تتماشى نسبيا مع انتاجها، وتخفيض الاخرين من داخل الاوبك وخارجها.. الا ان قرار روسيا الاخير بتخفيض الانتاج والصادرات بمقدار 50 الف برميل يوميا اصاب السوق بنوع من الاحباط، فهذه الكمية، وبالرغم من انها افضل من كمية التخفيض المقترحة سابقا (30 الف برميل) الا انها تعتبر ضئيلة بكل المقاييس، كما انه من المتوقع حسب رأي المراقبين ان تنخفض الصادرات الروسية خلال فصل الشتاء في جميع الاحوال، الا انه من الملاحظ ان الحكومة الروسية تركت الباب مفتوحا للتعاون وذلك بقرارها مراجعة موضوع التخفيضات مرة أخرى مع بداية الشهر القادم (ديسمبر).. فإذا رفضت روسيا مبدأ التعاون مع الاوبك والدول المنتجة الأخرى والمشاركة المتكافئة في التخفيض، فقد تنخفض الاسعار وبشكل يصعب التكهن عن مداه. اما في حالة تعاون روسيا وتخفيضها لانتاجها وصادراتها، فمن المتوقع ان ترتفع الاسعار، وان يستقر سعر سلة الاوبك ما بين 22 ـ 25 دولارا خلال النصف الاول من العام القادم على الاقل. فلا بد من الملاحظة هنا، ان قرار التخفيض وبهذه الكمية الكبيرة (مليونا برميل يوميا) يبدأ مع بداية شهر يناير، اي ان تأثيره سيكون محدودا بأواخر الربع الاول والربع الثاني من العام القادم.. وهذا يعني ان الهدف هو استقرار وتوازن السوق وليس احداث قفزة في الاسعار.

وبالنسبة لروسيا، فإنه من الملاحظ حاليا وجود نقاش مستفيض داخل الحكومة وداخل الصناعة البترولية الروسية.. وهذا وضع صحي سليم يبعث على التفاؤل.. فحسب التقارير الصحافية الواردة من موسكو، فإن هناك اختلافا في وجهات النظر ليس فقط بين المسؤولين الحكوميين، بل كذلك داخل الصناعة البترولية نفسها، بين مؤيد للتعاون والتخفيض المناسب في الانتاج والتصدير، والمعارض لكل هذا.

ومن المؤسف ان هناك تشويشا خارجيا لهذا النقاش، واعطاء صورة مخالفة للواقع او صورة سلبية.. فعلى سبيل المثال هناك من يحاول الزج اعتباطا بالعامل السياسي في هذا.. فقد اشار البعض الى ان روسيا لا يمكن ان تتعاون مع الاوبك في وقت يزور فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتن الولايات المتحدة، كما انهم اضافوا الى ان روسيا تسعى حاليا الى بناء تعاون في كافة المجالات مع اوروبا الغربية والولايات المتحدة. من هنا فإنها قد لا تسعى الى التعاون مع الاوبك، وخفض الانتاج الذي يؤدي الى ارتفاع الاسعار وبالذات في وقت يمر فيه الاقتصاد العالمي بمرحلة تباطؤ في نموه.

الا انه من الملاحظ ان الولايات المتحدة الامريكية وكافة الدول الصناعية المستهلكة للبترول يهمها استقرار السوق البترولية الدولية هي الأخرى، وتدرك ان الضرر الناتج عن انهيار الاسعار، يساوي، بل ربما يزيد من الضرر الحادث عن الارتفاع الكبير في اسعار البترول.. اضافة الى ذلك فإن بعض الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، تعتبر دولا رئىسية منتجة للبترول، حيث تتأثر صناعتها البترولية سلبا بانهيار اسعار البترول، كما يرتفع اعتماد بعضها على البترول المستورد نتيجة لذلك وهو ما تحاول تجنبه. ويساوي هذا في الاهمية انه من غير المتوقع ان تغامر دولة مثل روسيا بمصالح اقتصادية واضحة من اجل اهداف سياسية متوقعة.

وهناك من يحاول تفسير الموضوع من منطلق وجود حرب اسعار بين الاوبك وروسيا، او حرب على الحصة الاكبر من السوق. وهناك من يذهب ابعد من ذلك بالقول بوجود صراع مواقف، بحيث يتراجع احد الطرفين عن موقعه لصالح الآخر Who blinks First، وقد وصلت درجة عدم الادراك والسلبية الى ان احدى النشرات البترولية سمت ما يحصل بين الاوبك والمنتجين الاخرين من ناحية وروسيا من ناحية أخرى بالابتزاز Blackmail.

فحقيقة الامر ان منظمة الاوبك تتجنب حربا للاسعار او صراعا على الحصص، ولو ارادت ذلك لاستخدمت طاقتها الانتاجية المجمدة والتي تصل الى حوالي خمسة ملايين برميل يوميا، ان هدف الاوبك هو استقرار الاسعار في ظروف اقتصادية عالمية صعبة ومشاركة جميع المنتجين كل حسب طاقته في تحمل المسؤولية.. وبدون هذا التعاون، الذي هو امر طبيعي ومتوقع وفي صناعة حساسة وهامة مثل البترول، فإن القضية لن تكون، من سيغض الطرف اولا، بل قد تكون اصعب من ذلك، ولن يخرج احد منها رابحا، وسيضطر الجميع الى التعاون لاحقا، ولكن بعد لعق الجراح.

* مستشار وزير النفط السعودي ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»