نصف معقول

TT

أفظع ما تواجه في هذا العمر يا عزيزي، هو هذه الحقيقة: أنت لا تعرف شيئا. مئات الكتب؟ آلاف الكتب؟ جولات على مكتبات نصف الكرة؟ أنت لا تعرف شيئا. لماذا؟ لأنك كلما قرأت شيئا آخر (وليس بالضرورة جديدا)، أدركت أن المعرفة محيط وأنت قارب صغير تائه في أعاليه. ومعك شراع أبيض رقيق. استخدمه إذن للاستسلام، قل: ارفع العلم الأبيض، فإنما كل ما يعرفه الإنسان في عمره لا يزيد على حاشية في صفحة من مجلد المعارف.

من عادتي أن أقرأ كل شيء. وإذا حوصرت في محطة قطار قد أقرأ الإعلانات المبوبة في مدينة لا يمكن أن أتوقف فيها. ومع ذلك أقنع نفسي بأن الإعلان المبوب قد يعطيني فكرة عن أوضاع الاقتصاد في تلك المدينة. أو عن طبيعة الحياة الاجتماعية فيها. وفي بعض المطاعم الصينية أو الإيطالية (الرخيصة) يوزعون في نهاية العشاء قطعة حلوى ملفوفة بورقة كتب عليها «حظك».

ورغم معرفتي أن «الحظ» لا يكتبه طباخ صيني أو مطرب إيطالي، فإنني أقرأ الورقة لعل ما كتب عليها مسل أو مضحك أو غبي يستغبي. وأجد أفضل الأقوال والأمثال في مجلة «أجنحة الأرز» على طائرة «الشرق الأوسط»، لأنني في الحالات العادية لم أعد أجد وقتا لقراءة الأمثال أو الحكم. ولي صديق عزيز يعيش في إسبانيا كلما تحدثنا في أمر عاجلني بمثل إسباني، فصرت أواجهه بأمثال عربية سريعة. واعترض مرة بأن هذا شعر لا مثل، فقلت لكثرة ما ردد صار مضرب المثل.

تكتشف أيضا في هذا العمر أنك لم تقرأ كل ما قرأت. وإذ تعيد وتستعيد تبدو وكأنها المرة الأولى. بدأت في قراءة جبران خليل جبران وأنا في الثالثة عشرة. ثم كررت قراءته مع السنين، ثم ما بين السنين. وأجريت أبحاثا كثيرة عنه، في فرنسا والولايات المتحدة. وفي عام 1973 التقيت في نيويورك اثنين من الذين عاصروه. وأعدت النظر في ترجمة بعض كتبه. لكنني لم أقرأ كلامه هذا من قبل في أي مكان، وأجده الآن في مطبوعة مجانية تصدرها «رابطة أصدقاء كمال جنبلاط»: «لا تصادق أنصاف الأصدقاء، ولا تقرأ أنصاف الموهوبين، ولا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، ولا تتعلق بنصف أمل، وإذا تكلمت فتكلم حتى النهاية، فالنصف هو حياة لم تعشها وكلمة لم تقلها وصداقة لم تعرفها. نصف طريق لن يوصلك إلى مكان. أنت إنسان، وُجدت كي تعيش الحياة وليس كي تعيش نصف الحياة».

مضبوط. معك حق، يا عزيزنا جبران. أو بالأحرى معك نصف حق، فلو كان ما تفضلت به ممكنا لما احتاج أحد أن تذكره به. آسفون.