طرائف السياسة المصرية!

TT

ربما آن الأوان لكي نتخفف قليلا من التوتر المصاحب للسياسة المصرية وانتخاباتها، على الأقل حتى يحل موعد الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستدور بين الدكتور محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين والفريق أحمد شفيق المرشح المستقل والذي يمثل نظريا نفسه فقط، وإنما عمليا كل قوى «الدولة» في مصر حتى بعد أن تغيرت على مدى سبعة عشر شهرا من الثورة والفورة والتغييرات المختلفة. المناسبة ربما تتيح أيضا الاطلاع على إشارات وعلامات ما سوف يأتي بعد «الربيع العربي» الذي يبدأ عادة بالثورة التي تطيح بالقيادة القائمة، ومن بعدها تأتي «الفترة الانتقالية» التي تجري فيها هندسة التحول من النظام القديم إلى النظام الذي يفترض أن يكون جديدا بشكل ما والذي عليه أن يحل مشكلات ومعضلات عجز من سبقوه عن حلها.

بدأت الطرائف المصرية فور إعلان النتيجة بطريقة غير رسمية يوم الجمعة الخامس والعشرين من مايو (أيار) عندما خرجت جماعة الإخوان المسلمين تطالب بعقد اجتماع في اليوم التالي للقوى الوطنية حتى تتحد في مواجهة «الفلول» أو قوى النظام القديم. لاحظ هنا أن الإخوان دعوا إلى اجتماع قبل إعلان النتيجة رسميا، ومن تمت دعوتهم هم ذات القوى التي جرت هزيمتها في الانتخابات التي انتهت توا ولم تبرد دماؤهم الملتهبة بالحملة الانتخابية. وببساطة كان مطلوبا من الأستاذ حمدين صباحي، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وحصلا معا على نحو تسعة ملايين صوت، أن يتخليا عن أحلامهما في رئاسة الجمهورية واحتلال قصر العروبة لكي ينضويا تحت جناح الإخوان المسلمين. جاء الرد على أي حال فوريا فلم يمتنع المرشحان صاحبا المركزين الثالث والرابع عن الحضور فقط بل أعلنا أن المعركة الانتخابية لم تنته بعد. كانت الحجة، وفيها قدر من الطرافة كما سنرى بعد قليل، أن 900 ألف من جنود الأمن المركزي والجيش تمت إضافتهم إلى السجلات الانتخابية وهم ليس لهم حق الانتخاب. ولكن من حضروا الاجتماع قاموا بما لم تقم به قوى سياسية في التاريخ. فطالما أن المطلوب هو الوحدة الوطنية ضد «الفلول» فإن على الدكتور مرسي - الفائز الأول في الانتخابات - أن يتنازل للسيد حمدين صباحي صاحب المركز الثالث وبفارق مليون صوت عن الأول، وهو الرجل الذي لم يحضر الاجتماع على أي حال وأكثر من ذلك فقد كان مصمما على معارضة كل من استبداد الدولة (أحمد شفيق) والاستبداد الديني (محمد مرسي) الذي كان صباحي قد دخل معه في «التحالف الديمقراطي» من قبل مما تسبب في حصول حزبه - الكرامة - على مقاعد في مجلسي الشعب والشورى. انتهى الاستبداد الديني ساعتها، ولكنه عاد بعد هزيمة صباحي في الانتخابات التي أعلن بعدها «النصر» لأنه «الرئيس الشعبي» وهي طريقة ناصرية قديمة فطالما لا يزال النظام قائما، والمرشح موجودا ووراءه ملايين المؤيدين، فإن النصر لا بد قائم حتى ولو كانت قواعد اللعبة تقول إن الفائزين في الجولة الأولى هما اثنان فقط حصلا على أعلى الأصوات ومن بعدهما فهم في عداد الخاسرين.

لم يفلح اجتماع «التحالف الوطني» لأن قائمة المطالب من الإخوان من أول اختيارات الجمعية التأسيسية ونواب الرئيس ورئيس مجلس الوزراء والوزراء والمستشارين والمجلس الرئاسي تجعلك تتخيل أن السيد مرسي قد خسر الانتخابات ولم يكن هو الفائز بها. على أي حال فقد تم إعلان النتيجة رسميا، وظهر أن قصة الـ900 ألف صوت إضافي لا أساس لها من الصحة فعدد جنود الأمن المركزي جميعا مائة ألف، ومن تمت إضافتهم إلى الجداول الانتخابية أكثر من نصفهم من النساء ولم يصدر قانون بصدد تجنيدهم، أما البقية فهم إما دون سن التسجيل أو تعدت سنهم الستين عاما وهي سن أكثر قليلا من سن التجنيد. لم يصدق الأمر كله إلا على 36 ألف فرد لم يكن منهم جندي واحد لا من الجيش ولا من الأمن المركزي. ومع ذلك فإن السيد خالد علي المرشح الاشتراكي والحائز على 134 ألف صوت فقط لا غير من بين أكثر من 24 مليون صوت أبى إلا أن يقول إن الانتخابات كانت مزورة، وراح يقود المظاهرات في ميدان التحرير، والتي حركت موجة من الغضب استغلها «مجهولون» في حرق المقر الانتخابي للسيد أحمد شفيق.

تحرك العقلاء على أي حال وتمكنوا من تهدئة الوضع حتى تأخذ الديمقراطية مجراها، ولم يفطن أحد منهم إلى أن 54 في المائة ممن لهم حق التصويت فضلوا عدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع ومشاهدة نتائجها في التلفزيون. ولكن العقلاء وهم خليط من الباحثين عن أدوار، والخاسرين للانتخابات قرروا أن يلعبوا على الفائزين فيها. وهكذا تشكلت لجان للعهد الوطني أو الميثاق القومي أو التوافق بحيث يعرض على الدكتور والفريق مجموعة من المطالب لا تختلف عما عرض من قبل بعد حذف طرف استقالة الفائز من فوزه. ولكن حصاد المطالب كان بسيطا، وهو أن يكون لدينا رئيس للجمهورية أسير مجموعة كبيرة من أصحاب الأهواء والمذاهب السياسية، حتى يتخلص الدكتور من الداء الإخواني في الذهاب إلى الدولة الدينية، ويتخلص الفريق من مرض الانتماء إلى الدولة العسكرية. وهكذا يكون الضامن الأساسي للدولة المدنية الحديثة الديمقراطية ألا يكون هناك دولة على الإطلاق. فحينما يكون الرئيس مكبلا بجماعة غير متجانسة، ولا تنتهي أبدا من النقاش حول كل موضوع، ويهدد كل واحد فيها بالاستقالة إذا لم يؤخذ رأيه للتنفيذ كما حدث في المجلس الاستشاري من قبل؛ فإنه سوف يستحيل على الرئيس أن يفعل شيئا حقيقيا. هنا لا يجد رأس الدولة في يده شيئا إلا التفرغ لمواجهة «المليونيات» التي سوف تنزل إلى ميدان التحرير متهمة إياه بالفشل وعدم الإنجاز والوفاء بمطالب الثورة.

لحسن الحظ فإن أيا من المرشحين لم يعط التزاما بهذه الطرائف خاصة أنها أتت ممن لا يملك جماهير أو أصواتا ترجح أو تغير الموازين. ولكن الجميع يعلم أن مثل ذلك بات جزءا من الضجيج الكبير الجاري الذي يعكس حالة من الفقر الديمقراطي الكبير لدى النخبة السياسية والتي تفتقر إلى شجاعة الاختيار أو تريد تجنب آلامه لأنه لا يتعلق بالماضي أو الحاضر وإنما بالمستقبل الذي تواجه فيه مصر مصيرها بعد أن شهدت الربيع وآن أوان العودة إلى الواقع مرة أخرى.

لا تبتئس كثيرا عزيزي القارئ، فالديمقراطية مثلها مثل كل نظم الحياة تحتاج إلى تعليم وتدريب، وربما آن أوان وضعها في مناهج المدارس. وإذا حدث ذلك فعلا فربما كان ذلك هو الثورة الحقيقية التي يأتي بعدها ربيع دائم لا تذبل له زهور ولا تجرفه رياح الخماسين ولا يزدحم بطرائف الباحثين عن أدوار.