نظام في مأزقه الأخير!

TT

يقف العالم مكتوف اليدين وهو يتفرج على النظام السوري الذي يذبح شعبه من الوريد إلى الوريد. منذ ستة عشر شهرا والنظام لا يفعل شيئا غير إرسال جيشه وأمنه من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية، تنفيذا لسياسة يشرف على تطبيقها ضباط وجنود أنفق الشعب حر ماله على إعدادهم كي يحاربوا إسرائيل ويحرروا الأرض السورية المحتلة، وها هم يستخدمون «مهاراتهم» الحربية ضده، ويشنون عليه حربا عوانا لا رحمة فيها ولا شفقة، طاولت المواطنين كبارا وصغارا، شيبا وشبابا، رجالا ونساء، ولم تترك طفلا أو رضيعا إلا وأوصلت إليه جرعة عنف كافية كثيرا ما أودت بحياته، حتى ليمكن القول لمن يخوفون سوريا من حرب أهلية: إن هذه لن تقع، لأنه توجد في سوريا اليوم حرب لا تقل سوءا عنها هي حرب السلطة ضد المجتمع عامة والمتظاهرين خاصة، وهي تستمر بلا انقطاع رغم أنها فشلت فشلا ذريعا، وأخذت تهدد بالتحول إلى مقتلة إقليمية مخيفة، سيمليها على النظام هروبه إلى الأمام تخلصا من هزيمته الاستراتيجية الكبرى، التي أدخلته في طريق مسدود يتجسد في عجز «إنجازاته» الجزئية، أي مجازره التي يرتكبها هنا وهناك، عن قلب ميزان القوى لصالحه، رغم تصريحات قادته التي قالت خمس مرات إلى اليوم إن الأمن قد استتب والهدوء قد عاد كما قال بشار الأسد نفسه مرات متكررة، و«الأزمة صارت وراءنا»، على حد قول بثينة شعبان قبل عام كامل، وغيرها وغيرها من تصريحات تطمين الذات التي أدلى بها المسؤولون شهرا بعد شهر ويوما بعد يوم، بينما يحدث انقلاب تكتيكي بطيء لصالح الثورة، التي لا تعرف فقط كيف تخوض مظاهراتها السلمية، وإنما تدير بكفاءة متصاعدة معاركها الإعلامية، وتدافع عن نفسها بنجاعة أكبر، رغم حشد العتاد المتفوق الذي يستخدمه النظام ويوظفه خارج أي معايير وطنية أو إنسانية.

يصعب على الإنسان العاقل فهم الطريقة التي يرى النظام الأزمة من خلالها. كيف يرى النظام على سبيل المثال أن حله الأمني قد أدى الغرض منه، إذا كان عدد المسلحين قليلا جدا عند بدء تطبيقه، هذا إذا كان هناك من هو مسلح أصلا، وصار اليوم أكبر بكثير مما كان عليه في أي وقت خلال سنوات حكم البعث التي قاربت الخمسين؟ وكيف يعتبر أنه انتصر، إن كانت دمشق مدينة آمنة كما زعم طيلة عام كامل، وصارت اليوم مدينة متفجرات ومعارك تستخدم «قوات المعارضة» - حسب تسمية جهاد مقدسي الناطق باسم الخارجية السورية في آخر مؤتمر صحافي له - فيها الصواريخ المضادة للدبابات ومدافع الهاون؟ وأي هدوء واستتباب أمن هذا الذي يجعل شارعا طوله أكثر بقليل من قرابة كيلومتر واحد مقطوعا بأربعة حواجز مسلحة قابلة للزيادة من خلال الحواجز الطيارة؟ وأي نجاح يجعل فرعا أمنيا يضم عشرات آلاف العناصر والضباط يرفض منذ بعض الوقت الذهاب إلى أي مكان إلا إذا حرست قوات الجيش النظامي، المسلحة في الغالب بالدبابات، عناصره ودورياته؟ أخيرا، عن أي انتصار يتحدثون إن كان النظام يوجد حيث توجد دباباته، ويختفي في كل مكان تنسحب منه، وكان مضطرا لإرسالها عشرات المرات إلى كل مكان، ليثبت أنه ما زال موجودا هناك خلال الأيام القليلة التي يرابط أثناءها فيها، قبل أن تضطره المظاهرات وحركات العصيان إلى مغادرتها لغزو أماكن أخرى؟

لا جدال في أن طريقة معالجة الأزمة السورية بالعنف أثارت دهشة المعجبين بالنظام، واستهجان المنصفين من مراقبي الحدث السوري، وإدانة خصوم السلطة الأسدية. لم يفهم حتى المقربون من هذه السلطة كيف يمكن لعنف حل أزمة لا يصلح لحلها، تفيد معها الوسائل والتدابير السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصحيحة، وتفشل التدابير العنيفة، خاصة إن كانت حمقاء وتجافي أي حساب عقلاني وتعتمد سياسات القتل الأعمى والتصعيد المفرط. وقد نصح كثيرون من أصدقاء النظام قيادته بالابتعاد عن العنف، والتصدي للأزمة بوسائل سلمية تلبي مطالب الشعب وتتفادى مواجهة علنية ومتفاقمة معه. ورغم أن هذه وعدت أن لا تسفح نقطة دم سورية واحدة، وأن تجري إصلاحا قالت إنه سيتم خلال أسبوع واحد، فإن ما حدث كان مفجعا بجميع المعاني والمعايير، فهو لم يتناقض فقط مع مزاعم وأكاذيب أهل السلطة حول حبهم للشعب وتعلقهم بأمانيه، بل كشف كم هم عاجزون عن فهم الواقع، وكم يؤكد عجزهم وإفلاسهم وبالتالي نهاية دورهم في حياة سوريا وقرب سقوطهم.

من المحال، بعد ستة عشر شهرا من الفشل الرسمي، أن ينجح النظام بأي وسيلة أو سياسة كانت في قلب موازين القوى لصالحه. ومن الصعب أن يستعيد زمام المبادرة، بسبب تغير البيئة السياسية السورية وتخلق نمط جديد من الوطنية يقوم على الحرية والتفاعل المجتمعي المفتوح ويشحن الشعب بالإصرار على مواصلة النضال من أجل حقوقه وحرية وطنه واستقلاله، وتبلور واقع جديد ينسف الواقع الذي أقامته السلطة واحتجزت المواطن فيه، بعد أن سلبته كل ما من شأنه مساعدته على تقبل العيش مع نظام لم يقلع يوما عن إخافته واضطهاده ونهبه وإفساده، وتقويض أسس مجتمعه والتفريط بوطنه، ولم يترك له خيارا غير الثورة عليه، لاستعادة ما سلبه إياه.

رغم جراحه وآلامه وموته، يشعر الشعب السوري بالتفاؤل لأن خصمه أثبت بأدلة كثيرة قاطعة أنه يمتلك قدرا عظيما من الغباء وسوء التقدير والتدبير، وأن غباءه سيلعب دورا لا يستهان به في سقوطه المؤكد وربما الوشيك. بالمقابل، يثق الشعب بخروجه منتصرا من محنته، رغم ما يتكبده من تضحيات كان آخرها مئات الشهداء والجرحى في بلدة الحولة الصغيرة، وامتداد فترة الصراع، وسلبية معظم دول العالم حيال حياته وحقوقه!

تجتاز سوريا القطوع الصعب، الذي بدا أول الأمر مستحيلا، ويتحول بقوة وإرادة الشعب الحر من أمل إلى واقع لا سبيل إلى إلغائه: بغباء القوة أو بقوة الغباء!