الحروب الرخيصة المدمرة الدائرة حولنا

TT

مرة أخرى تطفو على السطح تقارير عن الحرب الإلكترونية الدائرة خلف ظهورنا وفي منطقتنا، مع الكشف الأسبوع الماضي عن فيروس جديد أطلق عليه اسم «فليم» (الشعلة) استهدف منشآت تصدير النفط الإيراني وسرقة بيانات ومعلومات أخرى مهمة محفوظة في أجهزة الكومبيوتر التابعة لدوائر حكومية ومسؤولين في الدولة، وذلك في إطار الحرب السرية المحتدمة لتعطيل المساعي النووية الإيرانية. ووفقا للخبراء؛ فإن هذا الفيروس يعتبر أقوى عشرين مرة من «ستكسنت» الذي استهدف تعطيل منشآت نووية إيرانية وكشف عنه عام 2010 عندما تسرب «بالخطأ» من الأجهزة الإيرانية إلى الإنترنت ليصيب أجهزة كومبيوتر في أنحاء أخرى من العالم لم تكن مستهدفة أصلا بتلك الهجمات الإلكترونية.

الشكوك كانت تحوم منذ البداية حول الولايات المتحدة وإسرائيل باعتبارهما مصدر الهجمات الإلكترونية الموجهة ضد إيران، كما قيل إن هناك أطرافا أخرى شاركت في العملية التي أحيطت بسرية شديدة منذ البداية؛ مع التزام واشنطن وتل أبيب سياسة الصمت التقليدية في العمليات الاستخباراتية الطابع. هذه الشكوك لم تتأكد إلا منذ أيام قليلة عندما نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرا مثيرا استند كاتبه، الصحافي ديفيد سانغر، على حصيلة مقابلات كثيرة أجراها مع عدد كبير من المسؤولين الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين الحاليين والسابقين خلال فترة امتدت 18 شهرا لإعداد كتاب حول هذه الحرب السرية، نزل إلى الأسواق أمس، لتشكل المعلومات المفصلة الواردة فيه والمستندة إلى تصريحات بعض المسؤولين في إدارة أوباما أول اعتراف رسمي بأن أميركا وإسرائيل صممتا دودة «ستكسنت» لشن حرب إلكترونية أطلق عليها اسم «الألعاب الأولمبية» وهدفها تعطيل البرنامج النووي الإيراني.

البرنامج، كما اتضح، بدأ منذ أواخر فترة بوش كبديل عن شن ضربات جوية على إيران تكون محفوفة بالمخاطر، واستنادا إلى كتاب سانغر فإن بوش نصح أوباما عندما سلمه البيت الأبيض بأمرين؛ المحافظة على برنامج الحرب الإلكترونية ضد إيران، وغارات الطائرات من دون طيار التي تستهدف قيادات تنظيم القاعدة، وهي النصيحة التي طبقها أوباما بحماس شديد لتشهد رئاسته تصعيدا للحرب «السرية» في هاتين الجبهتين. وفي حين أن ضربات الطائرات من دون طيار (الدرون) لا يمكن إخفاؤها، فإن الحرب الإلكترونية بقيت طي الكتمان، واستمرت عامين تقريبا قبل أن يخرج أمر «ستكسنت» إلى العلن بعد تسرب الدودة نتيجة خطأ في البرنامج الكومبيوتري إلى خارج إيران عبر شبكة الإنترنت. المفارقة أن العقيد القذافي ساهم، من غير أن يدري، في تطوير السلاح الإلكتروني الذي هوجمت به إيران، إذ إن أميركا استفادت من أجهزة البرنامج النووي الليبي التي سلمها العقيد لواشنطن بعد تخليه عن حلمه النووي مقابل رفع الحصار عنه، وشيدت بها نموذجا للمفاعل الإيراني لإجراء تجارب الهجوم الإلكتروني عليه.

أما المفارقة الأخرى فهي أن إيران ذاتها ساعدت مهاجميها برد فعلها الذي بدأ بالارتباك الذي جعلها تغلق الكثير من أجهزتها، ثم بإنكارها للإصابة بالدودة الإلكترونية، وبذلك أضاعت وقتا طويلا قبل الاستعانة بخبراء روس أو أوكرانيين للتعرف على دودة «ستكسنت». ورغم أن طهران أعلنت بعد ذلك أنها شكلت وحدة للحرب الإلكترونية وقالت إنها أصبحت قادرة على التصدي لمهاجميها، بل وشن هجمات عليهم، فإن قدراتها في هذا المجال تبقى محدودة؛ والدليل على ذلك هو تعرضها لهجمات فيروس «الشعلة» الذي يعد أخطر من دودة «ستكسنت» من حيث أنه مصمم للتجسس الإلكتروني وسرقة معلومات مهمة تستخدم في ضربات أخرى، وقد يكون هناك جزء من هذه المعلومات استخدم في عمليات الاغتيال التي استهدفت علماء ومسؤولين في البرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين.

الحرب الإلكترونية أصبحت واقعا، وستكون بلا شك سمة أساسية في حروب المستقبل، وهي بالتأكيد لن تكون مصممة لإيران وحدها بل قد لا يسلم منها أحد، خصوصا أنها من نوع الحروب الرخيصة المدمرة التي لا تحتاج إلى جيوش جرارة، ويمكن أن تدار من أماكن بعيدة ويبقى منفذها بعيدا عن الأنظار، وربما غير معروف الهوية. فإذا كان بعض القراصنة الهواة قادرين على اختراق أو تعطيل مؤسسات دول كبرى، ويشنون أحيانا حروبا عبر الحدود، فما بالك بالقدرات التي طورتها بعض الدول لشن هجمات إلكترونية يمكن من خلالها شل الخصم تماما باستهداف أجهزة الكومبيوتر التي تتحكم في عمل المصارف ومحطات الكهرباء ومراقبة حركة الطيران وتدخل في الكثير من الخدمات الأساسية ومؤسسات الدولة.

وهناك ما يفيد بأن الكثير من الدول حول العالم بدأت تطور قدرات الحرب الإلكترونية، هجوما ودفاعا، وتمكن بعضها من قطع أشواط بعيدة في هذا المجال، خصوصا أميركا والصين وروسيا وإسرائيل، بينما تؤكد الوقائع أن المنظمات المتطرفة والحركات الإرهابية مهتمة أيضا بالفضاء الإلكتروني وتعلمت توظيفه إعلاميا وفي أغراض التجنيد ونشر طرق التدريب على تصنيع المتفجرات، وليس هناك من شك في أنها تسعى لتطوير قدراتها في هذا المضمار لأنها تعتمد على استراتيجية الهجمات الرخيصة التي تحدث دمارا كبيرا، وتثير الرعب والفوضى.

هذا كله يجعل المرء يتساءل عما إذا كانت هناك دول عربية استعدت لمثل هذه الحروب التي تدور حولها، وربما طالها بالفعل بعض رذاذها. فما فائدة كل ترسانات الأسلحة باهظة الثمن إذا لم تكن هناك استعدادات للحماية من وسائل تعطيلها إلكترونيا؟ وما فائدة هذه الأسلحة إذا كان العدو شبحا، ومصدر الهجمات مجهولا؟ بل ما الفائدة إذا لم تتوفر القدرات لمواجهة عدو إلكتروني محتمل قد يستهدف شل الحياة وإثارة الفوضى من خلال استهداف وتعطيل محطات الطاقة، وعمل المصارف والمؤسسات الحكومية والمنشآت الاقتصادية الحساسة؟

الدول العربية التي تعيش في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابا وحروبا لا تستطيع تجاهل خطر حروب السلاح الإلكتروني، وإلا دفعت الثمن باهظا.. عاجلا أم آجلا. وإذا كانت في حاجة إلى تحفيز فما عليها إلا التأمل في إعلان إسرائيل أنها حددت هدفا لنفسها بأن تكون إحدى القوى الخمس الكبرى في هذا المجال الإلكتروني.

[email protected]