أنقرة ـ تل أبيب: الجديد تحت الشمس

TT

في الذكرى الثانية للعدوان الإسرائيلي على «أسطول الحرية» وقتل 9 أشخاص لم تكتف أنقرة بدعوة الشيخ رائد صلاح ليؤم المصلين في أحد مساجد إسطنبول وبقراءة الفاتحة مجددا على أرواح من سقطوا وتنظيم مهرجانات ومظاهرات تنديد في المدن التركية، بل هي فاجأت الإسرائيليين بقبول هيئة محكمة الجزاء السابعة في إسطنبول طلب المدعي العام بإقامة دعوى قضائية ضد الضباط والجنود الإسرائيليين المخططين والمشاركين في هذا الاعتداء وبدء محاكمتهم.

محاكمة ستكون غيابية إلا إذا ما قررت تل أبيب إرسال محامين للدفاع عن ضباطها وجنودها وعلى رأسهم غابي أشكنازي وعاموس يدلين المطلوب سجنهم مدى الحياة بتهم القتل المتعمد، وهي التي كانت قبل عام تقريبا تتجاهل طلب القضاء التركي بتسليمها التفاصيل الكاملة حول الهجوم ولوائح بأسماء المشاركين فيه والمخططين له.

المدعي العام التركي أكينجي عمل لأشهر طويلة بصبر ودراية وهو يعد للوائح الاتهام، فهو يعرف أن إسرائيل هي التي سيواجهها. 150 صفحة من الاتهامات ومئات الصفحات من الإفادات والوثائق وصفها البعض بأطروحة دكتوراه أعدها المدعي العام وضمنها 3 أبواب رئيسية حول مسار العلاقات التركية - الإسرائيلية وكيف فتحت أنقرة الأبواب أمام الهاربين من النازية وهتلر إبان الحرب العالمية الثانية ومنحت الجنسية لأكثر من 20 ألفا منهم في بعد إنساني لا أكثر. ثم ناقش مطولا تفاصيل الهجوم الذي جمع كل شاردة وواردة حوله وعززه بإفادات المشاركين في «أسطول الحرية»، وأنهى مذكرة الاتهامات بالبعد القانوني الوطني والدولي ونظرته إلى مسائل من هذا النوع وكيف تحركت البحرية الإسرائيلية لتنفيذ هجوم في عرض البحر مستخدمة السلاح ضد مدنيين عزل عن مسافات قريبة أثبت الطب الشرعي وجود رصاصات من أنواع وأسلحة مختلفة في أجساد بعضهم، مما يؤكد أن القتل المتعمد كان الهدف الأول لهذا الاعتداء.

صقور الخارجية الإسرائيلية أفيغدور ليبرمان وداني ألون يقولان في العلن إن إسرائيل لن تتراجع عن مواقفها السابقة، وإن الحكومة الإسرائيلية ستطالب العواصم الأوروبية النافذة بالوقوف إلى جانبها في الضغط على أنقرة، لـ«إيقافها عند حدها»، ولإجبارها على التخلي عن «استفزازها وتحريضها»، لكنهما في السر يناقشان مع أحد أهم رجال الأعمال الأتراك من أصل يهودي جاك كمحي خطورة المرحلة ومطالبته بالتعامل بجدية كاملة وببرودة أعصاب مع المطالب التركية إذا ما كانت إسرائيل مهتمة حقا بمنع العلاقات من التدهور أكثر فأكثر مع أنقرة.

تل أبيب حاولت تمرير المسألة بعرض 6 ملايين دولار تقدم لذوي الضحايا عبر إحدى المنظمات الإنسانية وباعتذار مموه حول ما جرى، لكن أنقرة تريد اعتذارا رسميا يقدم للدولة التركية مباشرة وبتحميل المسؤولين عن الهجوم المسؤولية السياسية والقانونية وبتعويضات مادية لأسر القتلى والجرحى، وهذا ما يعكس حقيقة أن حكومة أردوغان لن تتساهل وتتخلى عن مواقفها وتتركها عرضة لمرور الزمن كما يقول البعض.

الدوائر القانونية والسياسية في إسرائيل ستدرس التطورات الجديدة هذه لكنها تعرف أن الرهان على دعم أميركي وأوروبي للضغط على أنقرة لإقناعها بالتخلي عن عنادها هذا لن يقود إلى نتيجة، بل العكس هو الصحيح، تركيا هي التي ستطالب المجتمع الدولي بإلزام تل أبيب بتسليم المطلوبين للعدالة بعدما أعطت إسرائيل الوقت والفرص الكافية للتعامل بجدية مع ما تقول. قرار هيئة محكمة الجزاء في إسطنبول حول الشبهات القوية في لوائح الاتهام وبدء المحاكمات في الأسابيع المقبلة، يحمل أكثر من مغزى ورسالة إلى الإسرائيليين تحديدا:

إن أنقرة لن تتراجع رغم تأخرها في طرح الاستراتيجيات البديلة للرد عن مطالبها وشروطها، رغم مرور عامين على الحادث ورهان البعض على برودة الأعصاب وأولوية المصالح والحسابات السياسية في العلاقات التركية - الإسرائيلية.

إن تركيا ستواصل رفضها لتقرير لجنة بالمير الذي لم توقعه وتعترف به وجاء على طريقة «لا يفنى الذئب ولا يموت الغنم»، حيث يعترف لإسرائيل بقرار محاصرة غزة ويعطيها الحق بحماية سواحلها، لكنه ينتقدها لأسلوب الشدة والقوة المبالغ فيها المستخدمة ضد ناشطي «أسطول الحرية».

إن تركيا غير متفائلة بأن يحمل تقرير لجنة تيركل الإسرائيلية أي جديد لها، وخصوصا أن مؤشراته الأولية التي قدمها أعطت لإسرائيل الحق بالقيام بمثل هذا الهجوم وحاولت تبريره قانونيا وسياسيا.

إن الخطوة التالية التي ستكون بعد صدور الحكم هي محاولة تنفيذه وإلزام إسرائيل به من خلال تحرك قانوني دولي بالتنسيق مع جهاز الإنتربول لإلقاء القبض على المتهمين وتسليمهم إلى تركيا لتنفيذ العقوبات المقررة بحقهم.

تركيا ونشطاء منظمات الإغاثة وحقوق الإنسان يتحركون الآن باتجاه إقامة دعاوى وصدور قرار محاكمات مماثلة تجري في الولايات المتحدة وأوروبا لشبان يحملون جنسيات هذه الدول وقتلوا في الهجوم الذي نفذته البحرية الإسرائيلية قبل عامين، يتقدمهم الفتى فرقان دوغان الأميركي الجنسية والمولد.

المواجهة ما زالت مستمرة ضد القرصنة والإرهاب المنظم وقتل المدنيين في المياه الدولية لمجرد أنهم ساندوا فك الحصار عن الفلسطينيين المعزولين في غزة، وقوى تقرأ وتفسر القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان على طريقتها ومزاجها.