هرطقات ثورية!

TT

إذا كان من ملمح بارز يمكن استخلاصه من تجربة «الثورات» غير الناضجة حتى الآن، فهو أنها أفرزت هرطقة في المجال السياسي الذي بات مباح الكلأ لكل الفاعلين في المجتمع، لا سيما اللاعبين الجدد في السياسة ممن ولجوها بعد تردد طويل وطول مقام في ضفة المعارضة، وما يتصل بذلك من «ثقافة» الأزمة التي غالبا ما تكتسي الجماعات السياسية المعارضة، وربما كان من المبكر الحكم على الأداء السياسي للاعبين الجدد في مضمار السياسية، إلا أنه يمكن القول: إن كل المؤشرات التي أطلقها أداء «الإخوان» كانت سلبية، ليست من وجهة نظر معارضيهم فحسب؛ بل حتى من أنصارهم والمتعاطفين معهم والمحايدين على حد السواء.

وبعكس تحليلات كثيرة ذهبت إلى انفراجة مدنية ستعيشها الأمة الإسلامية بعد أن تمت أسلمة «الديمقراطية»؛ فإن المقلق حقا هو أن هذا الدمج ومحاولات التبيئة أنتجت هرطقات سياسية ساهم في تكريسها التلاقح ما بين أزمة «الإخوان» القادمين من أجواء المعارضة وثقافة المعتقل، والثوار الشباب المحبطين من نتائج «التغيير» التي أسقطت النظام وأبقت على ثقافته، وبالتالي فإن توقف نقد نتائج هذه العلاقة سينقلنا إلى عكس المرحلة التي تنبأ بها المتفائلون، ومنهم على سبيل المثال المفكر الفرنسي أوليفيه روا الذي ارتأى في كتبه (فشل الإسلام السياسي) ثم (عولمة الإسلام) ثم (الجهل المقدس.. زمن دين بلا ثقافة)، أن الأصولية تنتهي بتأثر الخطابات الدينية بالثقافة العصرية، في حين أن السهل جدا إقامة نظم معرفية متكاملة ذات طابع أصولي ما دامت قائمة على الفصل بين الأدوات والسياقات التاريخية لها، ومن هنا ولدت هرطقات ثورية بدأت تنعكس آثارها سريعا في مجتمعات دول «الثورات» حيث تزداد مساحة الناقمين والمنضوين تحت لواء حزب «الكنبة» على حساب المتعاطفين مع خطاب الثورة والتغيير.

أولى هذه الهرطقات وأكثرها أثرا وتأثيرا هي طبيعة فهم الديمقراطية والمجتمع المدني، والفروقات بين الدولة ونظام الحكم والحكومة والقوى السياسية، فالنظر إلى الديمقراطية بوصفها فقط «آلية» لتسيير المجال السياسي، وتنظيم تداول السلطة هو قطع لصلاتها الاجتماعية التي نشأت فيها، وحتى إساءة إلى كل التراث الفكري الإسلامي الضخم الذي تصالح معها وحاول مفكروا النهضة البحث عن بيئة ملائمة لها داخل الفكر الديني من خلال ربطها بمفهوم الشورى، هذا الدمج ليس إلا تأكيدا على أن التعددية السياسية والإطار الديمقراطي ليس مجرد آلية يمكن استنباتها بقوة القانون أو بحكم الأمر الواقع، أو حتى كنتيجة طبيعية وسلسلة للاحتجاجات والثورات، الديمقراطية في مفهومها الجذري تستلزم الإيمان بحق كل الأطراف وبشكل متساو في الحصول على الفرصة ما دام أن هناك شريحة ما تتبنى خياراتها السياسية.

الخيارات المدنية التي تؤسسها ثقافة الديمقراطية هي القطيعة مع الرأي الواحد ومع الوثوقية والاستعلاء بالذات، سواء كانت بشعارات ومضامين دينية أو حتى من خلال الافتئات على خيارات الشعوب، لا سيما الأغلبية الصامتة التي باتت توصف أحيانا بالفلول ورجيع النظام السابق وحزب الكنبة.. إلخ.

وبإزاء هرطقة فصل الديمقراطية عن مستلزمات الحداثة، ثمة هرطقة لا تقل عنها أنتجتها فوضى المفاهيم لمرحلة «الثورات»، هذه الهرطقة السياسية تكمن في افتعال أزمات ذات طابع ديني على اعتبار أن كل الخيارات السياسية التي تستبعد الإسلاميين هي محاربة للدين ذاته، ومن هنا يمكن فهم الآن حالة التجييش، سواء في مصر وكانت من قبل في تونس والمغرب وفي تجارب سابقة الأردن والكويت، فالاختلاف مع الإسلاميين ليس بالضرورة اختلافا مع الإسلام، لا سيما أن أغلب الأحزاب الليبرالية، وحتى العلمانية منها، تعلم جيدا أن الدين مكون أساسي للمجتمعات الإسلامية، كما أن هذه القراءة السطحية لعلاقة الحداثة بالدين هي نتاج مرحلة الصراعات بين الإسلاميين والأنظمة الحاكمة وليس تجاه الحداثة ذاتها، وحتى في السياق الغربي فتجربة لوثر الإصلاحية كانت ضد احتكار الكنيسة الكاثوليكية للتمثيل الديني.

ثالث هذه الهرطقات الثورية أن نتائج الانتخابات هي نهاية العرس الديمقراطي، وعليه فلا يمكن لأحد أن يشكك في النتائج ما دامت أنها تمت بآليات ديمقراطية، ولا شك أن مفارقة فصل الديمقراطية عن سياقاتها المجتمعية الطويلة والمعقدة جعلها أيضا مقطوعة الصلة عما بعدها، هذا الفصل جعل عددا من المفكرين يعتبرون أنها خصوصية تكاد تكون غربية لا يمكن استنباتها إلا عبر صيرورة تاريخية طويلة، ومع ذلك فإن ما بعد نتائج العملية الديمقراطية من الاستحقاقات السياسية أكبر بكثير مما قبلها، وأهمها حمايتها من أن تقف التجربة عند أول مخاض وذلك من خلال تأسيس القوانين والتشريعات التي تحمي بقاءها، فالخطاب المدني القانوني يتأسس على مبادئ السيادة والتمثيل في المجالس النيابية وحق الأمة في الاختيار.

من الهرطقات الثورية، الاعتماد على حجم اللاعبين الجدد في المضمار السياسي وبالأخص جماعة «الإخوان»، فحالة الفرح بفوز الجماعة في أكثر من بلد جعل عددا من الثوار المتحولين يمينا باتجاه الإسلام السياسي يراهنون على الأدوار الإقليمية التي يمكن أن تلعبها الجماعة في ظل قوتها، إضافة إلى تحالفاتها المستقبلية، متناسين أن جزءا أصيلا من فهم الحداثة السياسية المكون الأساسي للديمقراطية هو الإيمان بمبدأ وحدود الدولة القطرية، وبالتالي تقلص مساحة المكان والزمان السياسي، إضافة إلى تباين المصالح والتحالفات من دولة إلى أخرى.

الخلط بين الحداثة السياسية كسيرورة حضارية وبين مجرد الديمقراطية كآلية قانونية أدى إلى تلك الهرطقات ليس في فهم الثورات وما بعدها، بل وفي تفسير تجربة الحداثة الأوروبية ومدنية مجتمعاتها، وهو الأمر الذي دائما ما يقفز عليه الثوار والإسلاميون وهم يستحضرون كمالية أتاتورك كمثال مكرور لنقد الديمقراطية والتخويف بها ومنها، ألم يقل شكسبير ذات مرة: ليس المهرطق من يحترق بالنار؛ وإنما من أشعل المحرقة!

[email protected]