حين يتعطل العقل.. فكل شيء في الوهم ممكن

TT

في عدد يوم الثلاثاء، العشرين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من جريدة «الشرق الأوسط»، ورد خبر طريف يبعث على الابتسام المر، رغم الم القلب، وشر البلية ما يضحك، فالطالبان وشيعتهم، يبقون من المنتمين الينا، ونحن من المنتمين اليهم في النهاية، رغم الخلاف مع افكارهم وتصرفاتهم وسياساتهم، ان كان هناك ما يمكن ان يسمى سياسة هنا. يقول الخبر: «اعلن شقيق قائد افغاني معارض امس ان الملا محمد عمر، زعيم حركة طالبان، عدل عن فكرة التخلي عن مدينة قندهار (جنوب) المعقل الرئيس للحركة بعد رؤيا في المنام.. ونقل قرضاي عن الملا عمر قوله: رأيت في المنام اني اتولى المسؤولية طالما بقيت على قيد الحياة». ورد الى ذهني مباشرة بعد قراءة هذا الخبر مقارنة سريعة بين الخصمين المتقاتلين: اميركا وطالبان. الاول، رغم كل قوته، يضع خططا طويلة الامد في حربه مع طالبان، قوامها خمس مراحل مترابطة ومتتابعة، في ظل استراتيجية اطول امدا لتحقيق اهدافه في العالم كله، وليس افغانستان وحسب. والثاني، رغم ضعفه، وربما بسبب ضعفه، لا يعرف من الخطط الا العنف العشوائي، والاحلام الليلية المبشرة بالمستحيل دون تفرقة بين الاماد، قصيرها او طويلها او متوسطها، او اعتراف بعقل او موضوع. الاول لا يخطو خطوة الا وهو يعرف الخطوة التالية، او يخطط لها على الاقل. والثاني يتكل على مجرد رد الفعل، واحلام الليالي الباردة، دون ان يعقلها. فلو انه عقلها وتوكل، لكان في الامر منطق، اما ان يتوكل دون عقل، فهو شيء خارج العقل والنقل معا.

ومن ناحية اخرى، اعاد اليّ خبر الحلم، حكاية حلم آخر قرأت عنه في زمن سابق. ففي السنة الاخيرة من الحرب العالمية الثانية، وعندما كان كل شيء يتهاوى في «الرايخ الثالث»، أو «رايخ الالف عام»، وهو ذاك الكيان الجرماني الكبير الذي انشأه ادولف هتلر كي يستمر لألف عام، وكان واضحا ان الهزيمة هي المصير المحتوم للنظام النازي في المانيا، لم يقبل هتلر بكل الدلائل المنطقية والموضوعية المؤكدة على ذلك، فرفض الاستسلام وانقاذ ما يمكن انقاذه، وهو الاستسلام الذي كان من الممكن ان يجنب المانيا والشعب الالماني الكثير من الويلات والكوارث اللاحقة التي لم يكن لها اي مبرر، لولا تعنت الفوهرر. فطالما ان الفوهرر هو الذي تحدى القوى الاوروبية، كان عليه ان يقبل نتيجة تحديه، كائنة ما كانت بعكس الحالة فيما لو كان هو المتحدى وفرض عليه القتال فرضا. ورغم ان هتلر ادرك منذ عام 1944 انه قد خسر الحرب، الا انه لم يتصرف كمسؤول عن شعب بأكمله، فواصل القتال، وجند حتى الصبية في النهاية، وهو يرى كل شيء يحترق من حوله.

لم يكن الاستسلام جبنا او هروبا من المعركة في تلك الايام الحاسمة من تاريخ نهاية الحرب، بل كان هو الحل الشجاع الوحيد الممكن، لو كان للحياة الانسانية ادنى قيمة لدى الفوهرر. فالفرق بين الشجاعة والتعنت، والجبن والحكمة، كما الفرق بين الثرى والثريا، والتبر والتراب. فقد تتشابه النقائض في الشكل والمظهر، اما الجوهر والمضمون فهو قصة اخرى، قد لا يدركها الا من كان مصير الانسان هو هدفه الاول والاخير. كل شيء كان واضحا، فالسباق على اشده بين قوات الحلفاء على من يصل الى برلين اولا، ويفرض سلطته ونظامه، تمهيدا للصراع الجديد القادم بين حلفاء الامس لتحديد مناطق النفوذ في نظام ما بعد الحرب. فمن الشرق كان الجيش الاحمر السوفيتي يطوي الارض طيا للوصول الى برلين قبل الاميركيين. ومن الغرب كانت القوات الاميركية والبريطانية قد بدأت في احتلال الاراضي الالمانية، وعين لها على برلين واخرى على الجيش الاحمر. ورغم كل ذلك، فان الفوهرر كان متشبثا بأمل النصر، رغم معرفته بالهزيمة، عن طريق شيء «ما ورائي»، او عجائبي وغرائبي، او خارق للعادة يمكن ان يحدث بين لحظة واخرى، وبشكل مفاجئ لم يدخل في حسابات احد، بل ولا يمكن حسابه بالطرق الموضوعية المعتادة. كان ايمان الفوهرر بحدوث هذا الشيء العجائبي، او لنقل المعجزة، مستندا الى حادثة قد مرت عليه حين كان جنديا في الفيلق النمساوي في الحرب العالمية الاولى. يقول ادولف هتلر انه كان قد اصيب اثناء المعارك في تلك الحرب، فنقل الى وحدة طبية ميدانية قريبا من الجبهة. وفي ليلة من الليالي كان نائما، او هو في حالة بين اليقظة والمنام كما يقول، اذا به يسمع في منامه او حالته تلك هاتفا لا يعرف مصدره يأمره بالخروج من المستشفى الميداني. وبدون شعور، وكالمخدر او المنوم مغنطيسيا، يخرج هتلر ويسير باتجاه الجبهة، والقنابل تتساقط من حوله دون ان تصيبه. وفجأة هز انفجار كبير المنطقة كلها، فاستيقظ هتلر من نومه، واخذ ينظر حوله مستغربا ما الذي اتى به الى هذه المنطقة الخطرة من الميدان، فعاد ادراجه الى المستشفى. وهناك، اكتشف ان المستشفى بكامله قد قصف بشدة، فلم يبق له اثر، ومات كل من كان فيه من الجرحى، وبقي هو الناجي الوحيد. هنا، ادرك هتلر، كما يقول، ان الهاتف الذي جاءه في المنام لم يكن هلوسات مريض، ولا اضغاث احلام لا تفسير لها بل كان صوت القدر ذاته، وان الرب يعده لمهمة خاصة، ادرك في النهاية انها انقاذ الشعب الالماني، واعادة الكرامة اليه، بعد معاهدة فرساي الظالمة. اقتنع هتلر منذ تلك اللحظة بأن العناية الالهية قد اختارته مبعوثا لها كي يجسد «المانيا فوق الجميع»، وساعتها ادرك ان النصر في حرب انتقامية قادمة حتمي ولا ريب فيه. هذه القناعة بقيت ملازمة لهتلر حتى الساعات الاخيرة من حياته، وهو يفكر بالهرب الى جبال بافاريا، وقيادة حرب عصابات من هناك. ولكن، وعندما بدأ قصف الروس لقصر المستشارية، حيث كان هتلر وايفا برون، ادرك الفوهرر ان «الرؤيا» لم تكن رؤيا، بقدر ما كانت حلما عابرا، فانتحر هو وعشيقته، بعد ان تزوجها في الايام الاخيرة من حياتهما معا.

«رؤيا» هتلر تلك اودت في النهاية بحياة اكثر من ستين مليون انسان، هم ضحايا الحرب العالمية الثانية. بطبيعة الحال فان الاسباب العميقة للحرب العالمية الثانية مسألة لا تتعلق بهتلر وساساته فقط، كما ان الحرب العالمية الاولى ما كان من الممكن ان تتجنب لو ان ولي عهد النمسا والمجر لم يغتل في سراييفو، ولكن التفاصيل كان من الممكن ان تكون اقل كارثية لو ان هتلر لم يكن موجودا، ولكن هذه قضية تتعلق بدور الفرد في التاريخ، ويطول الحديث فيها. خلاصة القول هنا هي ان للفرد دوراً في التاريخ، ولكنه ليس دورا حصريا او مطلقا. فقد كانت الظروف مثلا تؤكد ان حربا بين الدول الاوروبية لا بد ان تشتعل، ولكن كان من الممكن لهذه الحرب ان تأخذ منحى آخر، فيما لو كان الاشخاص غير الاشخاص، والقادة غير القادة، وهنا يأتي دور الفرد في التاريخ. بل لو ان هتلر حاول انقاذ ما يمكن انقاذه من لحظة الانزال الكبير في النورماندي، ومن ثم تحرير الحلفاء لفرنسا، وبداية الانهيار الالماني الشامل، لربما كانت الخسائر في الحياة البشرية اقل. ولكن هؤلاء الطغاة والمستبدين وانصاف الالهة، يعتقدون ان الوجود كله مرتبط بوجودهم، فان هم ذهبوا ذهب الوجود بأكمله، او لا بد ان يذهب، فما قيمة حياة بدونهم، او وجود لا ترفرف فيه ارواحهم.

قد يكون للاحلام والرؤى، بصفتها آلية من آليات الامل، وبث الرجاء، دور في دعم الروح المعنوية للفرد او الجماعة عندما يكونون في حالة معينة من الضيق او اليأس، ولكن الاحلام وحدها لا تكفي. فأن تكون الاحلام هي كل الاساس الذي تقوم عليه سياسة معينة، يتعلق بنتائجها مصائر ملايين من البشر، فهذه قضية في غاية الخطورة، وتعبر عن ثقافة فيها العقل معطل في وقت اشد ما تكون فيه الحاجة للعقل، بل واستخفاف بارواح حرم الله قتلها، وحياة ما اوجدها خالق الكون الا لان تعمر لا ان تدمر، وهنا يكمن جوهر خلافة الانسان على هذه الارض. واليوم نرى كل شيء يدمر في افغانستان، الانسان والحيوان والمكان وارادة الحياة ذاتها، ومن الواضح ان حركة طالبان ونظامها ساقطان لا محالة، ولكن مع ذلك فان «امير المؤمنين»، الذي يفترض فيه ان يكون مسؤولا عن ارواح المؤمنين وامنهم، يتعنت ويتشبث بسلطة لا قيمة لها في نهاية التحليل، نتيجة حلم جاءه ذات ليلة باردة من ليالي قندهار. وسواء ما قيل عن ذلك الحلم حقيقة ام لا، فان النتيجة لا تختلف في نهاية الامر، فان من بدأ المأساة ينهيها، قتال في قندس وفي قندهار، والضحايا هم من شعب «امير المؤمنين»، الذين لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما يجري. والحقيقة انه ليس قتالا بقدر ما هو نوع من الانتحار، والقاء النفس في التهلكة، طالما ان الامور جلية تمام الجلاء.

فحتى لو انتصرت حركة طالبان في هذا الموقع او ذلك، فماذا بعد ذلك؟ من اين لها باستمرار امدادات السلاح، بل والطعام ذاته، وغيره من مستلزمات الحياة، طالما ان كل ذلك هو من انتاج ذات الخصم، اي انتاج «صليبي»، ولن يحصلوا عليها طالما كان هذا هو الوضع. نعم، وكما قال جبران، ويل لأمة تلبس ما لا تنسج، وتأكل ما لا تزرع، وتشرب ما لا تعصر. ان تتحدى يعني ان تكون على قدر التحدي اولا، والا فلماذا التحدي من اساسه، وسحق البشر في النهاية كدود الارض، رغم انهم اكرم مخلوقات الله. فكل شخص قادر على ان يقول «لا»، ولكن القدرة على فرض هذه الـ «لا» هي المهم. ربما يسعى الملا محمد عمر ورفاقه الى الشهادة، وفق فهمهم، او اثبات الشجاعة، ولكن ذلك يجب ألا يكون على حساب الشعب المغلوب على امره، او على حساب مقاتلين يريدون القاء السلاح، لكنهم يقتلون قبل ان يفعلوا ذلك. وفي مثل هذه المواقف، فان الشجاعة تكون بحقن الدماء، لا باراقتها عبثا ودون احساس بقيمة الانسان، اي انسان.

فالملا عمر لن يكون بأي حال من الاحوال اشجع ولا اكرم من الحسن بن علي، رضي الله عنهما، عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية بن ابي سفيان، رضي الله عنه وهو الذي بايعته شيعة ابيه وشيعته بامارة المؤمنين، وعلى القتال حتى الموت او النصر، ولكن الحسن، ووسط اتهام كثير من شيعته وغير شيعته له بالتخاذل، بل وحتى بالجبن لموقفه هذا، كان يضرب مثلا في الشجاعة، حتى ان العام الذي حدثت فيه هذه الاحداث، اصبح حدثا مشهودا من ايام تاريخ الاسلام ودولته، يعرف باسم «عام الجماعة». لقد كانت حياة الناس ودماؤهم اهم عند سبط الرسول الاعظم، صلى الله عليه وسلم، من اي شيء آخر، وهنا تكمن الشجاعة الحقيقية. الشجاعة في النهاية موقف، وليس بالضرورة ان تكون مرتبطة بسيف ومدفع، او ان تكون عنفا وقتلا وتعنتا. فالانبياء جميعا، ورجال مثل سقراط، او ابي حنيفة النعمان، او المهاتما غاندي، او مارتن لوثر كينغ، او نيلسون مانديلا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كانوا من الشجعان ابتداء، لا لانهم اصحاب سيف ومدفع، ولكن لانهم كانوا اصحاب مبادئ ومواقف في الملمات.

سيأتي هنا غالبا من يقول: «وهل تنكر ان الرؤيا الصادقة جزء من اربعين جزءا من النبوة، كما قال المصطفى عليه افضل الصلاة وازكى التسليم؟». بالطبع لا، فليس لمسلم ان ينكر شيئا من هدي خاتم الانبياء والمرسلين، ولكن هل كل من رأى حلما صنفه في مرتبة الرؤيا الصادقة؟ لقد كان الرسول الامين يرى الرؤيا، فتأتي كفلق الصبح، ولكن هل كان الخلق او بعضهم او اي منهم، يمكن ان يكون في مقام سيد البشر؟ بالطبع لا، ولكن وحي السماء انقطع بوفاة هادي البشر وعصر المعجزات انتهى مع نهاية عصر الانبياء، فلا من ولا سلوى، ولا مائدة تهبط من السماء، فكل ذلك خاص بالانبياء والرسل وحدهم. وقد قالها الفاروق عمر، رضي الله عنه، بان السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. لقد اوكلنا الله الى انفسنا بعد ذلك، في ظل ذاك الهدي، وفي ظل عقل ما فطره الخالق سدى. وقد قال البشير النذير ايضا «اعقلها وتوكل»، ولكننا تركنا العقل وتعلقنا بأهداب التوكل، رغم ان المعادلة لا تستقيم الا بطرفيها، فخسرنا هذا وذاك معا. وها نحن اليوم نبحث في الاحلام، ونتعلق بما يمكن ان تبشرنا به هذه الاحلام من التحليق في عنان السماء، في حالة من غياب الوعي عجيبة، وننسى في خضم ذلك كله الارض التي نستند اليها.. فلا حول ولا قوة الا بالله.. لا حول ولا قوة الا بالله.