الملا.. و«بي بي سي» و.. تدمير أميركا

TT

حملت الصحف عناوين مدوية عند كشفها عن خطة مزعومة للملا محمد عمر وقصفت آذان مستمعيها بعناوين مثل «خطة زعيم طالبان لتدمير اميركا». واريق بحر من المداد طيلة الاسبوع الماضي في شرح وشجب هذه الخطة السرية، والهزء منها، والتي كانت آخر ما تفتق عنه ذهن الملا عمر لتدمير الولايات المتحدة الاميركية. كما استغل ما سمي بـ«الخطة» كمبرر آخر لقصف افغانستان واطلاق حملة مطاردة لزعيم طالبان وحلفائه من ارهابيي القاعدة.

غير ان المشكلة هي انه ليس هناك من وجود لتلك الخطة والملا عمر الذي لا يعلم الا الله اين يكون، لم يعلن عن مثلها ابدا. ولهذا اما ان يكون شخص آخر قد طبخها او انها كانت نتيجة سوء فهم حقيقي ولكنه مذهل. ويرى متشككون ان اليستر كامبل المستشار الاعلامي لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير والمسؤول عن وحدة الحرب النفسية التي لها مكاتب في بريطانيا وبيشاور هو من كان وراءها.

اذ كان من اللافت ان المصدر الذي اعلن عن «خطة التدمير» هذه هو هيئة الاذاعة البريطانية «بي بي سي» الناطقة بالبشتونية. وقالت «بي بي سي» ان الملا عمر اتصل هاتفيا باحد مراسليها في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وطلب منه اجراء مقابلة معه. وجرى عقد تلك المقابلة بصورة غير مباشرة ومن خلال هاتف اقمار صناعية باصغاء شخص للاسئلة ومن ثم اعادتها الى الملا عبر خط هاتفي آخر، والاستماع الى ردود الملا وابلاغ الطرف الآخر بها. ليس هناك ما يحمل على الشك في ان من اتصل بالهيئة ليس الملا عمر. رغم ان ذلك قد يبدو خروجا على طبيعته المنعزلة ورفضه الالتقاء حتى مع وزراء حكومته او الحديث الى وسائل الاعلام الغربية، اذ ان الامور اختلفت نتيجة الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الارهاب. وربما يكون الملا يشعر بحاجة الى اسماع صوته الى العالم بعد تخلي حلفائه من الباكستانيين عنه.

ولنفترض ان الهيئة بالفعل اجرت مقابلة مع الملا، المشكلة هنا ان شريط المقابلة الذي بثته «بي بي سي» بالبشتونية ومدته 4 دقائق لا يرد فيه ذكر لاية خطة، بل ان مراسل الهيئة هو من استخدم كلمة «خطة». ويسأل المراسل «كيف تنظر الى الاوضاع الجارية في افغانستان؟» فيجيب الملا عمر «لقد خلقتم («بي بي سي») انتم ودمى الراديو الاميركي المتحركة (مناخا) لازمة، بيد ان الوضع الراهن في افغانستان يأتي ضمن اطار قضية اكبر وهي تدمير (الذي تسببت به) اميركا». وكان ان فرخ هذا الجواب كل المشاكل التي تلت فيما بعد، فالترجمة الانجليزية للمقابلة استخدمت كلمة «قلقا» في مكان تعبير الملا «مناخا للازمة»، كما ترجمت «التدمير الذي تسببت به اميركا» ليعني «تدمير اميركا».

ورغم خطأ الترجمة فان كل من يفهم البشتونية بامكانه ملاحظة ان الملا عمر يشير ببساطة الى التدمير الذي وقع بسبب القصف الاميركي لافغانستان لا الى اي خطة ترمي الى تدمير أميركا. ويتضح الامر اكثر فأكثر عندما يواصل الملا حديثه بالقول «ان تطهير طالبان» جار الآن، ويضيف «سنشهد ذلك خلال فترة قصيرة من الوقت». غير ان المراسل يشتم رائحة شيء يسيل له اللعاب فيمضي متسائلا «ماذا تعني بتدمير أميركا؟ هل عندكم خطة محكمة بهذا الخصوص». ونجد ان الترجمة الانجليزية تستبدل هذه المرة «بهذا الخصوص» بعبارة «لتنفيذ ذلك»، مما يترك انطباعا بأن المقابلة تدور حول خطة لتدمير أميركا. ولا يدرك الملا انه يسير برجليه الى الكمين المنصوب، اما لرداءة خطوط الاتصالات او لانه مجرد صبي فلاح لم ينل الا قدرا قليلا من التعليم. ويفترض ان المراسل يقصد الاشارة الى خطط التصدي لما خلفه القصف الاميركي لافغانستان والحاجة الى تطهير طالبان من العناصر غير المخلصة. ولهذا فانه يجيب بأن جهوده في التصدي للدمار الذي خلفته الولايات المتحدة وتطهير طالبان ستلقى النجاح باذن الله، ويقول «ان كان عون الله في جانبنا فان ذلك سيتحقق في فترة قصيرة من الوقت». وعند هذا الحد يزيد سيلان لعاب المراسل بالربط بين خطة الملا التي لا وجود لها واسلحة اسامة بن لادن النووية والكيماوية والبيولوجية التي لا وجود لها كذلك، ويسأل «لقد هدد أسامة بن لادن باستخدام اسلحة نووية او كيماوية او بيولوجية ضد أميركا، فهل ما تتوعد به له صلة بذلك؟».

وهنا تصل محاولات المراسل في التحايل الى منتهاها، فرغم ان بن لادن رجل تافه لا يوفر فرصة للتبجح الا ويقتنصها فانه لم يقل ابدا انه يمتلك اسلحة نووية وكيماوية وبيولوجية ويريد استخدامها ضد أي كان. وكان المراسل الباكستاني الاصل الذي قابل بن لادن قبل بضعة أيام من اختفائه قد تحايل عليه لاستدراجه بأخذ مزيد من المعلومات، وسأله عما يمكن ان يفعله في حال استخدام اسلحة نووية او كيماوية او بيولوجية ضد عصابته، فرد بن لادن «ان عندنا رادعا سنلجأ الى استخدامه في هذه الحالة».

بيد ان ذلك «الرادع» قد يعني جملة من الامور، مثل، تنفيذ سلسلة أخرى من الهجمات، ولا يعني ابدا ان بن لادن قال بأنه يمتلك مثل تلك الاسلحة، حتى لو كان يمتلكها بالفعل. ولنعد الى الملا المسكين المحصور في مصيدة ذلك المراسل، عندما يرد قائلا «ان هذا امر لا علاقة له بالاسلحة، ونحن نطمع في ان يساعدنا الله، وبعون الله فانها (أي أميركا) ستتواضع». ومرة اخرى نلاحظ هنا من سياق المقابلة وبوضوح ان الملا يأمل ان تتواضع اميركا في حربها ضد افغانستان لا أن يصيبها الدمار. كما يوضح الملا في القسم التالي من المقابلة أن «المهمة الكبرى» التي تشغل باله ليست تدمير أميركا المزعوم بل تطهير ولملمة صفوف مقاتلي طالبان. وقال ان النكسات الاخيرة «ربما ساعدت في تطهير عناصر طالبان من آثامهم». ولم يتوقع الملا إلا توقعا واحدا خلال المقابلة باشارته الى ان جهود تشكيل حكومة وحدة وطنية ستمنى بالفشل، وقال «ان السعي وراء تشكيل حكومة تضم الاطراف المختلفة ظل جاريا لعشرين عاما على الاقل، ولكن لم يتمخض عنه أي نفع، ونحن لن نقبل بحكومة مؤلفة من آثمين، كما أننا نفضل الموت على ان نكون طرفا في حكومة شر».

وهنا لا بد من التنويه الى ان من القواعد الاساسية في اجراء المقابلات ان المراسل ينبغي عليه عند سماع شيء جديد ومثير من الشخص الذي يقابله ان يسأله مرة ثانية ان كان قد سمع الاجابة بشكل صحيح، وسؤاله «هل سمعتك جيدا؟ هل تقصد ان تقول ان عندك خطة لتدمير الولايات المتحدة؟» ولكن مراسل الهيئة لم يأخذ بذلك الاجراء الاحتياطي البسيط، وربما يكون الملا الآن مختبئا في احد الكهوف للنجاة بحياته ولا تتوفر له من طريقة لايضاح ما قصده، ناهيك عن نفي ان يكون قد فكر ابدا في تدمير اميركا.

ولا يعنيني في هذا المقام ما يحصل للملا عمر، فهو يستحق مكانه في نار جهنم لقمعه وقتله شعب افغانستان خلال السنين الماضية. ولكن ما يهمني هنا هو مصداقية مهنتنا، وان لا يقول الملا لرفيقه في الكهف اسامة بن لادن بأنهما كانا على حق وان «بي بي سي» تعمد احيانا الى «ترتيب» الامور لتناسب ما يريده اليستر كامبل.