غارات «الدرونز» تبعد باكستان عن أميركا وتقرّبها من إيران!

TT

هل قررت الولايات المتحدة الاستغناء عن باكستان كحليف؟ أم أنها تريد أن تثبت لإسلام آباد أن زمن الألاعيب قد ولى، وأن سشياسة جهاز استخباراتها لم تعد مقبولة أميركيا، أي دعم «طالبان» و«القاعدة» من جهة، والغزل «المادي» مع واشنطن من جهة أخرى. يقول المثل «رقصة التانغو تحتاج لاثنين». لكن بعدما فشلت الولايات المتحدة في إقناع باكستان بقمة الحلف الأطلسي في شيكاغو، بإعادة فتح خطوط المواصلات لحافلات «الأطلسي»، قرر البيت الأبيض، أن يفعّل برنامج الطائرات من دون طيار (الدرونز) فوق أهداف محددة في باكستان. ويمكن لهذه الغارات أن تتضاعف بعدما توصل مسؤولو «الأطلسي» إلى اتفاقيات مع أوزبكستان، وقرغيزستان، وكازاخستان لتوفير سحب الآليات والمعدات العسكرية من أفغانستان مع اقتراب موعد الانسحاب (تجدر الإشارة إلى أن سجل حقوق الإنسان في هذه الدول أكثر من سيئ).

كأن الولايات المتحدة قررت التعامل مع باكستان عبر غارات طائرة «الدرونز» فقط، إما مغلقة الباب أمام الاتصالات الدبلوماسية، وإما ضاغطة أكثر على إسلام آباد حتى تعيد فتح طرقات المواصلات من دون قيد أو شرط، ومن دون تلقي اعتذار من واشنطن.

تسارعت حملة «الدرونز» في عهد الرئيس باراك أوباما، لكنها تحولت إلى مصدر للإحباط العميق والتوتر بين الولايات المتحدة وباكستان. قد يكون سرا، أن عددا من القادة العسكريين الباكستانيين يدعمون حملة «الدرونز»، لكن في أوساط الرأي العام الباكستاني صار يُنظر بعدم ثقة إلى الولايات المتحدة ويعتبرون استمرار غارات «الدرونز» إهانة لسيادة باكستان.

كانت هذه الحملات هدأت قبل عدة أسابيع عندما تساءل الإعلام الأميركي نفسه عن جدواها، خصوصا أنها تحصد في طريقها الكثير من الأبرياء. وتساءلت صحيفة «نيويورك تايمز»: «كم من القتل يكفي؟» و«استمروا بإضافة الأسماء على قائمة القتل».

لكن، عادت الغارات وكانت آخرها صباح الاثنين، حيث قال المسؤولون الباكستانيون إن ثمانية مسلحين مشتبه فيهم قتلوا بغارة «الدرونز». كانت هذه الغارة السابعة في أقل من أسبوعين، وسلطت الضوء على الأهمية التي تعلقها واشنطن على استعمال طائرات «الدرونز» كوسيلة أساسية لمكافحة تنظيم القاعدة ومقاتلي «طالبان». كان المتشددون اجتمعوا في مكان واحد لتقديم التعازي في شقيق أحد قادة التنظيمات الذي قُتل مع آخرين، بهجوم «الدرونز» يوم السبت الماضي.

الغارات بحد ذاتها ناجحة في «استئصال» الأهداف، لكنها تعمق من كراهية الباكستانيين للولايات المتحدة، وتشير إلى أن فراغا بدأ يحدث في العلاقات الاقتصادية والخارجية الباكستانية، وهذا الفراغ تستعد إيران لملئه بكل قوة.

غارة السبت، الأولى منذ منتصف شهر آذار (مارس) وقعت جنوب وزيرستان، وقتلت من تنعتهم إسلام آباد بالـ«طالبان الجيدين»! بينهم «رحمن الله» قائد رئيسي للملا نذير علي وشقيق «القائد مالانغ» من نفس المجموعة. الملا نذير يدير منطقة «وانا» ويدعم ويحمي قادة «القاعدة» وناشطيها.

نفذت الولايات المتحدة 19 غارة بـ«الدرونز» هذا العام في باكستان. أبرز اثنين استهدفتهما الغارات كانا «إسلام أوان» زعيم «القاعدة» لشبكة العمليات الخارجية، قتل في يناير (كانون الثاني)، والثاني «بدر منصور» أحد كبار قادة تنظيم القاعدة و«طالبان»، قتل في شهر فبراير (شباط).

الملا نذير يدعم علنا زعيم «طالبان» الملا عمر وزعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن، ويشن الجهاد في أفغانستان. الاستخبارات الباكستانية تعتبر الملا نذير وأتباعه من الـ«طالبان الجيدين»، لأنهم لا يسعون علنا لقلب النظام في باكستان. في الماضي، نجحت الولايات المتحدة في قتل عدد كبير من «القاعدة» في مناطق الملا نذير، منهم إلياس الكشميري قائد «لشكري الذيل» أو جيش الظل، وقتلت مدحت مرسي السيد عمر المعروف بأبو خباب المصري، وكذلك أسامة الكيني (فهد محمد علي مسلم زعيم عمليات «القاعدة» في باكستان)، والشيخ أحمد سالم سويدان من أكبر مساعدي الكيني. وتعتقد الولايات المتحدة أنها قتلت، في إحدى الغارات، أبو زيد العراقي الممول الرئيسي لـ«القاعدة» في باكستان، كما قتلت أبو حظوة الجوفي الذي كان يقود مجموعة «جند الله» في كراتشي، ويرتبط بعلاقات وثيقة مع «القاعدة».

في مايو (أيار) من العام الماضي، أكد الملا نذير علي ولاءه لـ«القاعدة» وصرح علنا: «في نهاية المطاف، أن المجاهدين واحد، والجهاد لن ينتهي في أفغانستان. الطريق طويل. الملوك والديكتاتوريون في العالم العربي من المغتصبين. صحيح أن المظاهرات ضدهم تعتبر ديمقراطية، لكن في نهاية المطاف ستعود بالنفع على المجاهدين. لقد تحول الوضع بسرعة لصالحنا، والمجاهدون من أفغانستان سينضمون إلى إخوانهم العرب. اليمن ستكون وجهتنا الأولى وسوف نرسل رجالنا إليها» (هذا يفسر تكثيف غارات «الدرونز» على مناطق يمنية).

في بلاد مثل باكستان وفي ظل الظروف الصعبة التي تمر بها، فإن غارات «الدرونز» سلاح ذو حدين. يحقق للأميركيين وللعالم القضاء على بعض الإرهابيين والمحرضين على الإرهاب، لكنه يدفع بباكستان للبحث عن بديل، وهذا البديل جاهز، «يتربص» بأفغانستان وباكستان.

الآن، والولايات المتحدة تنسحب بهدوء من أفغانستان تاركة الأمر بيد الأفغانيين، التوقعات أن اللااستقرار سيلي، ولا ضمانات حتى الآن بأن محادثات المصالحة مع «طالبان» ستنجح. وإذا أعاد التاريخ نفسه، فالتوقعات تنبئ بمزيد من الفوضى والقتال الداخلي، ولن تجد إيران من يتحداها بقوة لتسويق مصالحها. أفغانستان ستكون جاهزة ومعها ستكسب باكستان، خصوصا أن دينامية العلاقات الإيرانية - الباكستانية تغيرت لمصلحة إيران.

باكستان اليوم في حاجة ماسة إلى موارد الغاز الإيراني لإنتاج الطاقة لاحتياجاتها اليومية. وقد قررت الحكومة الباكستانية بالفعل أن الغاز المستورد من إيران سيوفر وقودا أرخص وأنسب لتوليد الطاقة. بعض المحللين يعتقد أن الغاز الإيراني يمكن أن يوفر 20 في المائة من احتياجات باكستان للطاقة، وبعضهم يميل إلى الخمسين في المائة. وتعاني باكستان انقطاع التيار الكهربائي يوميا لمدة 12 ساعة، واقتصادها تعب. لذلك، فإن خط الأنابيب بين إيران وباكستان يشكل البديل الأفضل لباكستان لاستيراد الطاقة، خصوصا أن إيران راغبة ومستعدة وهي شقت 900 كيلومتر من خط أنابيب طوله 1100 كلم.

البديل الآخر خط أنابيب تركمانستان - أفغانستان - باكستان - الهند، لكنه متأخر لسنوات مقارنة مع الخيار الإيراني وأكثر خطورة.

تعرّض خط أنابيب باكستان لضغوط وانتقادات من الحكومة الأميركية التي تقود حملة العقوبات الاقتصادية والنفطية ضد إيران، لكن، كما حامت إيران على باكستان، تطل الآن روسيا. إذ وعدت شركة «غازبروم» الروسية بمساعدة باكستان لبناء خط أنابيب من حدودها مع إيران إلى داخل الأراضي الباكستانية.

لم يتأخر الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يوم العشرين من الشهر الماضي وهو يستقبل الدكتور فردوس عشيق أمان الوزير الاتحادي الباكستاني للتنظيم والخدمات في القول: «إن أعداء باكستان سوف ينظر إليهم على أنهم أعداء إيران». ونشرت تصريحه هذا كل الصحف الباكستانية.

التجاوب مع مد اليد الإيرانية يلقى شعبية في باكستان ويجعل من أي خطوة لزرداري تجاه إيران مقبولة لدى الرأي العام هناك. وفي استطلاع للرأي العام شمل 21 دولة، كان الباكستانيون الأكثر تأييدا لتملك إيران السلاح النووي (50 في المائة)، وكانوا النسبة الأقل (13 في المائة) ممن يعتبرون إيران النووية تشكل أي خطر.

إن سبب الشعبية التي تحظى بها إيران في باكستان له علاقة بالمشاعر المعادية للولايات المتحدة لدى الرأي العام الباكستاني، وهذا يرجع لأسباب كثيرة، من بينها وأهمها، غارات طائرات «الدرونز» داخل الأراضي الباكستانية!