منزلان بلا مذياع

TT

كلما عدت إلى سيرة فيروز وعاصي ومنصور الرحباني، أكتشف خطأ الثلاثة، في أنها لم تكتب بإشرافهم. المحاولة الجدية الوحيدة وضعها الشاعر هنري زغيب بعنوان «طريق النحل» في حوار مع منصور الرحباني، وهي ممتعة وغير كافية، وقد قلت لفيروز، نحو عام 1985: إن سيدة في مثل مكانتها لا يجوز أن تذهب سيرتها بلا تدوين، وكان جوابها بين الهزل والجدية «هيدي مش بيكتبوها بعدما يموتوا».

في استعادة «طريق النحل» للمرة الثالثة أقرأ أن منصور وعاصي كانا ينزلان من الجبل ليبحثا عن بيت فيه راديو، ويجلسا تحت النافذة للاستماع إلى الأغاني. لو كلف الرحابنة كاتب سيرة واحدة لأضاف إلى هذا المشهد مشهدا مقابلا: الصبية نهاد حداد (لاحقا فيروز) واقفة على شباك منزلها الأبوي في زقاق البلاط، تصغي إلى الأغاني من راديو الجيران.

أشهر ثلاثي غنائي في نصف قرن عاش في منزل لا راديو فيه، وكان والد عاصي ومنصور، وهو عازف بزق، صاحب مقهى يغني لزبائنه، لكنه يمنع على ولديه الإصغاء إلى الموسيقى، ويمنع الزوجات في المقهى من الجلوس إلى جانب أزواجهن بل قبالتهن، حرصا على سمعة العائلات.

وعندما علم أن ابنيه يحضران صف الموسيقى ذهب إلى المدرسة وأخذهما منه عنوة، وجاءت فرصة عاصي عندما أضاع أحد رواد المقهى ورقة عشر ليرات، فعلقها والده على حبل على مدخل المقهى ووضع ورقة جانبها كتب عليها: هذه أمانة هنا لصاحبها.

ومرت أيام دون أن يعود صاحبها، فعمد عاصي إلى تزوير ورقة مشابهة وأخذ الورقة نفسها ونزل إلى بيروت حيث اشترى «كمانا» بسبع ليرات ونصف الليرة. مع هذا الكمان سوف ينتقل عاصي من صبي دكان عند والده إلى عازف يعمل ضمن فرقة الإذاعة اللبنانية، وفي هذه الفرقة سوف يتعرف على مغنية مبتدئة تدعى نهاد حداد.

نقل الرحابنة طفولتهم إلى كل المسرحيات الغنائية التي زينوا بها حياة لبنان. حمل منصور معه شخصية زميله في رعي الماعز. رسموا وطنا ينتهي دائما إلى المصالحات والفرح، ونقل عاصي ومنصور حكايات جدتهما التي يعلنان وفاتها في مسرحية «ميس الريم» التي تدور في قرية «كحلون». كم كانت حياتنا ستكون أقل مشاعر وإنسانية لو لم تقع عشر ليرات من صاحبها في مقهى فوار انطلياس.