تناقض غير حميد

TT

تؤدي تناقضات الشرق الأوسط، وما أكثرها! إلى إيقاع أميركا أيضا في بوتقة التناقضات. يأتي في مطلعها هذا التناقض بين موقفها حيال ليبيا وموقفها المتردد حيال سوريا. حاول بعض الخبراء العسكريين تفسير هذا التردد في استعمال القوة ضد أسلحة الأسد بالصعوبات اللوجيستية والميدانية. غير أنني أرى غير ذلك. فعلى عادتي، أرجع خيوط شتى أمور الشرق العربي وتطوراتها إلى تل أبيب. ذكرت سابقا أن إسرائيل لم تعط الضوء الأخضر لواشنطن بالتدخل في سوريا. فهي تعتبر الأسد مناسبا لها وتقلق من حلول الإسلاميين محله.

بشار الأسد رجل محظوظ، فقد جمع حوله كل المتناقضات، فحصل على تأييد إسرائيل وإيران وروسيا والصين وحزب الله في لبنان وحتى الحزب الشيوعي في سوريا، زائدا تردد أميركا وعجز الجامعة العربية وتهافت القوى العربية.

قلت في مناسبة سابقة إن من الأجدى لأنصار المعارضة أن يتوجهوا بخطابهم لتل أبيب ولا يضيعوا وقتهم مع واشنطن. وكواحد يتعاطف معهم، سأبادر لأن أدلو بدلوي. لا أعتقد أن لإسرائيل أن تتخوف من تغيير النظام في دمشق. فأي نظام جديد يحل محل نظام البعث سينشغل لسنوات كثيرة في إصلاح ما خربه ودمره الأسد. سيواجه مشكلة البطالة وتعويض المتضررين وعودة المهاجرين وسداد الديون والنهوض باقتصاد البلاد. لن يحاول إضافة مشكلة أخرى أو يفكر في مغامرة جديدة.

فضلا عن ذلك، فلن ينسى النظام الجديد كيف دعمت إيران وحزب الله بشار الأسد في هذه المذبحة الجارية. سيتقوض هذا الجسر الذي تتواصل به طهران حاليا مع الجنوب اللبناني. وهذا أمر مهم للإسرائيليين. وإذا كانوا يفكرون في ضرب إيران بسبب مساعيها النووية، فمن المفيد لهم أن يجدوا في سوريا دولة تقف على الحياد في هذا المعترك ولا تفتح أبوابها لجبهة ثانية إيرانية لمقارعة إسرائيل كما ستحاول إيران.

لا أدري كم هو نفوذ الإخوان المسلمين في هذه الانتفاضة الجارية في سوريا. قيل إن تنظيمهم في الداخل ضعيف جدا. ولكنني سمعت أن بعض القادة الإسلاميين قد تأثروا بفلسفة غاندي وتبنوا سياسة الجهاد المدني (اللاعنف)، وهو ما سبق أن تناولته في مقالة سابقة. والواقع أن مسيرة هذه الانتفاضة وسلوك أصحابها، على الأقل في مراحلها الأولى غير المسلحة، يؤكد هذا النهج. ومن الواضح، كما يبدو، أنهم لم يتبنوا سلاح الإرهاب والعنف في حملاتهم. وهذه نقطة مهمة جديرة بملاحظة المصادر الإسرائيلية والقوى الغربية والتحقق منها. إذا صح ذلك، فهذا مفهوم إسلامي يجب أن نرحب به وندعمه ونفتح المجال له. وهذا جانب جدير أيضا بملاحظة الأقليات الدينية والطائفية والقومية في سوريا. فالجهاد المدني يقوم على التعايش والأخوة والمحبة.

المصالح الاقتصادية والسياسية تهمش الدين دائما. فالمفروض أن إيران وحزب الله الذين يدعون بالدين أن يتجاوبوا مع الانتفاضة ضد البعثيين العلمانيين، ولكن ما حدث هو العكس. وهي نقطة جديرة بالملاحظة لمن شاء أن يفكر ويعتبر ويسجل هذه الصفحة من النفاق الديني.