باراك.. مقدمات صحيحة وخلاصات خاطئة

TT

في مداخلة أمام الاجتماع السنوي لمعهد بحوث الأمن القومي، دعا السيد إيهود باراك إلى تحريك عملية السلام مع الفلسطينيين، مهددا بأنه في حال الإخفاق في الوصول إلى تسوية عبر التفاوض فلا مناص من أن تقوم إسرائيل بترتيبات أحادية الجانب.. تتلاءم مع المصالح والاحتياجات الأمنية لإسرائيل.

من جانبها حذرت السلطة الوطنية على لسان السيد نبيل أبو ردينة من مغبة الحلول أحادية الجانب، واصفة إياها بأنها تقوض حل الدولتين وتتسبب بمضاعفات سلبية خطرة على صعيد السلام المنشود.

أفكار باراك حول حاجة إسرائيل إلى حل ولو مؤقت وإشارته الصريحة إلى ترتيبات أحادية الجانب، نظر إليها من قبل الكتاب والمحللين الإسرائيليين على أنها ليست مجرد اجتهاد شخصي من جانبه، ورجحوا بأن طرحا كهذا لا بد أن يكون متفاهما عليه مع شركاء الائتلاف الحكومي وهم نتنياهو وليبرمان وموفاز، ولقد عزز هذا الاعتقاد إشارة باراك إلى المساحة الواسعة للائتلاف الحكومي في إسرائيل نوعا وعددا، إذ يصل إلى ما يربو عن تسعين عضو كنيست وهو رقم نادر الحدوث في التاريخ الإسرائيلي.

وفكرة باراك التي رفضت على الفور من جانب القيادة الفلسطينية لقيت تحفظا من قبل السيدة هيلاري كلينتون التي أعلنت تفضيلها لحل يتم من خلال التفاوض رغم عدم وجود تفاوض، بل وعدم ظهور آفاق إيجابية تشجع على استئناف التفاوض ولو على المدى البعيد.

الخوف الفلسطيني من الحلول أحادية الجانب، له ما يبرره سواء على صعيد تجارب الماضي لخصها الانسحاب الأحادي من غزة الذي أتمه شارون تحت عنوان التسوية مع الفلسطينيين من جانب واحد في إطار رؤية لمصالح إسرائيل الأمنية، فإذا بالانسحاب من غزة وتدمير المستوطنات هناك يتحول إلى عبء ثقيل على جميع الأطراف بما في ذلك إسرائيل.

واللافت للنظر في تصريحات باراك بأنها غير منطقية رغم وقوعها كصخرة على سطح الماء الراكد فإلى جانب إقرار وزير الجيش والأمن بعمق مأزق الجمود السياسي مع الفلسطينيين وإقراره كذلك بالحاجة إلى تسوية عاجلة معهم حتى في زمن الانشغال في الملف النووي الإيراني والربيع العربي، خصوصا في مصر وسوريا، إلا أن الخلاصات التي يتوصل إليها باراك تبدو بعيدة كل البعد عن أن تشكل حلا، خصوصا أن هوس الاستيطان لا يزال يهيمن على العقلية الحاكمة في إسرائيل وبفعل استحواذه المطلق على السياسات إزاء الفلسطينيين، فلا أمل بمفاوضات أو حتى حلول وسط على صعيد القضايا الأساسية بين الجانبين.

ومع أن كل كلمة ينطق بها باراك يجب أن تقابل بشكوك كثيرة حول المصداقية إلا أن إقراره بصعوبة بقاء الوضع على حاله مع الفلسطينيين ينبغي أن ينظر إليه فلسطينيا بمنظار أكثر موضوعية بل وأكثر جدية، وفي حالة كهذه ليس المطلوب التقاط فكرة باراك كما لو أنها طوق نجاة أو مبادرة سلام جديدة.. أو انقلاب في المواقف والسياسات الإسرائيلية، فليس هكذا تصنع السياسة، وخصوصا مع قيادة إسرائيلية كالتي تحكم الآن، بل المطلوب اشتباك سياسي من موقع المصالح الفلسطينية الأساسية.

إن مطلب تجميد الاستيطان وإنهائه والاستمرار في اعتباره غير شرعي ومرفوضا جملة وتفصيلا يجب أن يظل سياسة فلسطينية وعربية ثابتة، بل ويرقى إلى مستوى الثقافة والعقيدة، وإذا كانت إسرائيل القوية والمتفوقة وذات القدرات الخارقة بالقياس مع القدرات المادية الفلسطينية ترى استحالة التعايش في الوضع الراهن مع الفلسطينيين فإن على الفلسطينيين التقاط الخيط.. والتوجه لإسرائيل والعالم بموقف مستنير وراسخ ومتكامل يلامس الرغبة الدولية في كسر الجمود المروع الذي وصلت إليه عملية السلام على مسارها الفلسطيني، ذلك أن الاشتباك السياسي المنطلق من التمسك الفلسطيني بالحقوق وعدم التراجع عنها.. من شأنه تحريك المسار وإعادة القضية المنسية إلى الذاكرة الراهنة بل وفرضها على الأجندات الإقليمية والدولية التي ذهبت بعيدا عنها خلال الأعوام القليلة الماضية.

إن الاشتباك السياسي هو عودة إلى معركة وليس تراجعا باتجاه الخصم.. ويتعين على الرئيس عباس أن يجد الوسيلة الفعالة للعودة إلى المربع الفعال دون تراجع عن الموقف الصحيح والمبدئي من الاستيطان ودون التنازل عن الحقوق الأساسية التي كفلتها الشرعية الدولية ولم تغفلها الاتفاقات والتفاهمات من حيث المبدأ مع الطرف الآخر.