روسيا والموقف «المتوازن»

TT

في وقت يجوز فيه تأريخ الوضع السوري بما قبل مجزرة الحولة وما بعدها، لم يعد مقنعا أن يعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن موسكو «لا تدعم أيا من طرفي النزاع»، ولا للناطق الرسمي باسمه، ديمتري بيسكوف، أن يؤكد أن موقف روسيا من الأحداث في سوريا «متوازن ومنسق ومنطقي» ليزيل عن حكومته تهمة المساهمة في دفع سوريا - بشكل مباشر أو غير مباشر - نحو حرب أهلية مكلفة للجميع في المنطقة... ولروسيا، قبل غيرها، خارجها.

يصعب، بالمناسبة، تجاهل الطابع «الدفاعي» للتصريحين الروسيين الرسميين، ما يوحي بأن موسكو لم تعد بمنأى عما تحملها العواصم العالمية والمعارضة السورية من مسؤولية معنوية عن استمرار مأساة سوريا وتفاقمها، ما يبرر التساؤل عن «مصلحة» روسيا في المضي قدما في دعمها المطلق للنظام السوري. وهذا التساؤل يتخذ بعدا أخلاقيا في العواصم العربية التي تحفظ لروسيا جميلها في دعم القضايا العربية المحقة، وفي مقدمتها القضية الأم، فلسطين، وتعتبرها، بحكم الجوار الجغرافي والعلاقات التاريخية، أكثر الدول الكبرى تفهما لتحولات الشرق الأوسط. مع التسليم بأن تأييد روسيا السوفياتية للقضايا العربية إبان الحرب الباردة لم يخل، هو أيضا، من مصلحة استراتيجية ذاتية، ومع التسليم بأن سوريا أصبحت اليوم «الحليف» الوحيد لروسيا في منطقة الشرق الأوسط، فإن إصرار موسكو على تحدي نحو عشرين دولة عربية في مواصلة دعمها لنظام يعاني أصلا من عزلة دولية خانقة، يطرح تساؤلات بديهية حول مفهوم بوتين «للمصلحة الروسية» في الشرق الأوسط... وتساؤلات أبعد حول صدقية تعهده أمام المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بالعمل على منع وقوع حرب أهلية في سوريا.

نظريا، قد يعود دعم روسيا (والصين في هذا السياق) للنظام السوري إلى حرص الدول الشمولية المتبقية في القرن الحادي والعشرين على شد أزر بعضها البعض في زمن يهدد فيه الوعي الشعبي الديمقراطي باكتساح آخر بؤر الأنظمة التسلطية. ولكن ذلك لا يبرئ موسكو من دوافع استراتيجية أبرزها:

- محاولة تعويض «غيابها» عن التطورات الليبية بعد أن تسبب هذا الغياب في إقصائها عن «بازار» المكاسب الاقتصادية التي استأثرت بها الدول الغربية وشركاتها في «ليبيا ما بعد القذافي».

- توظيف عرقلتها لأي تكرار للسيناريو الليبي في سوريا في إطار رسالة موجهة للدول الغربية والأطلسية، مفادها أن لموسكو «مخالب» لا تزال قادرة على إبرازها في الشرق الأوسط.

- السعي لحماية آخر موطئ قدم لها في البحر المتوسط، أي حقوق الرسو وتسهيلات التموين التي يؤمنها النظام السوري لأسطولها الحربي في مرفأ بانياس... ما قد يسمح بإقناع دمشق، لاحقا، بتحويل بانياس إلى قاعدة حربية ثابتة للأسطول الروسي في البحر المتوسط وفاء «للخدمات» التي بذلتها لها في أحلك أيامها.

ولكن إذا كان بيت القصيد في مواقف موسكو الأخيرة من سوريا هو فعلا «منع وقوع حرب أهلية»، أفلم يحن الوقت لاقتران الأقوال بالأفعال عبر طرح مبادرة تسوية «متوازنة ومنسقة ومنطقية» تعكس وصف الناطق باسم بوتين لسياسة رئيسه؟ سواء اعتبرتها موسكو ثورة شعب متلهف للحرية أم مجرد «مؤامرة خارجية»، فلا بد من ملاحظة أن مساعيها الدبلوماسية لم تعد ترقى إلى مستوى المواقف التي نادت بها في الشهور الأولى لأحداث سوريا، وبينها الدعوة إلى حوار بين النظام والمعارضة حول طاولة مستديرة في موسكو.

مع ذلك، لا تزال موسكو تكرر أن حل الصراع في سوريا «لن يكون إلا بالطرق الدبلوماسية»، ولا يزال وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، يؤكد أن «لا بديل» لخطة المبعوث الأممي كوفي أنان لإحلال السلام في سوريا.

انطلاقا من هذين المعطيين يصح التساؤل: لماذا لا تجدد موسكو دعوتها إلى حوار جديد بين النظام السوري والمعارضة يكون، هذه المرة، برعاية المبعوث الأممي كوفي أنان «فتصيب عصفورين بحجر واحد»: تأكيد عملها الفعلي على منع نشوب حرب أهلية في سوريا... وإعادة الاعتبار لسمعتها المهتزة في الشارع العربي؟