إيران ومواجهة العرب للإضرار بالولايات المتحدة!

TT

قال الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، إن إيران زادت وتزيد من التوتير والتأزيم في المنطقة من خلال مسألتها النووية، ومن خلال التدخل في الشأن الخليجي بمعارضة مشروع الاتحاد بين دول الخليج. ويضاف لذلك تدخل إيران القوي لدعم النظام السوري ضد شعبه، كما تدخلها إلى جانب المالكي رئيس الوزراء العراقي في مواجهة أكثر مكونات الشعب العراقي أيضا! ولو شئنا المضي قدما لذكرنا التدخل الإيراني بلبنان وبالبحرين واليمن في السنوات الماضية وحتى اليوم.

إن تعدد أشكال التدخل ووجوهه ومنذ أكثر من عقد من الزمان، يشير إلى أن هذا النوع من السياسات ما عاد تكتيكا كما كان بعض المعارضين الإيرانيين يقولون لنا، بل صار استراتيجية إذا صح التعبير، والحجة دائما: مواجهة الولايات المتحدة، ومواجهة إسرائيل!

لقد أفادت إيران من التدخل الأميركي في المنطقة العربية والإسلامية بعد أحداث سبتمبر (أيلول) عام 2001؛ وسواء في أفغانستان أم في العراق. فقد أسقطت الغزوات الأميركية نظامين كريهين بالنسبة لها. لكنها قررت «الإفادة إيجابا»، وعدم الاكتفاء بالإفادة السلبية؛ فدخلت في البلدين المغزوين شريكة، ثم راحت تختلق أو تعزز مناطق نفوذ لها في شتى الجهات على حساب الاستقرار العربي وحسن الجوار وبخاصة في شرق المتوسط والخليج. وهكذا ظهرت السياسة الإيرانية المزدوجة التي لا تزال مستمرة حتى اليوم: جدال كلامي عال مع الولايات المتحدة وإسرائيل يصل أحيانا إلى التحرش غير المباشر، وجهد عملي من أجل التقاسم وحتى الإرضاء، ودائما على حساب الاستقرار وحسن العلائق مع العرب، وإثارة الاضطراب الطائفي بداخل الدول العربية، والتهديد الدائم بالعدوان بحجة مصارعة الولايات المتحدة وأحيانا من دون حجة.

ولكي يكون واضحا ما نقصده من الأمرين: أمر الإفادة من نشر الاضطراب في التبادل مع الولايات المتحدة، وأمر إثارة الصراع الطائفي والمذهبي من أجل مناطق النفوذ التي تضر ولا تنفع: مسألة الحوثيين باليمن، التي بدأت عام 2003. فمن ضمن الإحياء الشيعي وتصدير الثورة عن طريق تصدير المذهب، دخلت المؤسسات الإيرانية منذ التسعينات على خط إعادة تثقيف شبان الزيدية وتوعيتهم بأنهم شيعة، وأنهم متمايزون بل مختلفون عن السنة ومعهم. وعندما ظهرت خلافات مع نظام علي عبد الله صالح بسبب التهميش، دخل هذا الوعي الانقسامي المستجد ليصبح حربا على الجميع: النظام وجيشه، والقبائل، والسلفيين، وباسم ماذا؟ ليس باسم العدالة والإنصاف مثلا بل باسم مصارعة أميركا وإسرائيل، وهي الشعارات نفسها التي كان يرددها حزب الله وأنصاره في لبنان، ورددها أنصار إيران في العراق عندما كانوا يبنون مع الجيش الأميركي نظامهم الجديد(!)، وكانت هي شعارات المعارضة الشيعية في البحرين حتى قامت الثورات العربية، فصارت شعاراتها الحرية والحكم الدستوري وأحيانا إسقاط النظام! وعندما اشتد أوار الثورة اليمنية على نظام الرئيس علي عبد الله صالح، كان الحوثيون لا يزالون منهمكين بمحاصرة السلفيين وتجويعهم وقتلهم بعد أن امتد نفوذهم إلى ثلاث محافظات شمالية لانهماك الجيش بالتصدي للمتظاهرين!

وكانت آخر طرائف إيران (وجيش القدس والجنرال سليماني) تشجيع جماعات الحراك الجنوبي على الانفصال، أو دعم مطلبها في الانفصال. وعندما كنا نقول لهم قبل الانقطاع عام 2008: كيف تتضرر أميركا وإسرائيل من الحروب المذهبية باليمن، ومن انفصال الجنوب عن الشمال؟ كانوا يجيبون بصراحة: إن المقصود إزعاج المملكة العربية السعودية ودول الخليج بنشر الاضطراب على حدودهم وبداخلهم!

بيد أن هذا الانتشار المذهبي، أو تكوين مناطق نفوذ من طريق الانقسام المذهبي (وتحت اسم الوحدة الإسلامية!)، يظهر في أكثر حالاته سلبية في العراق وسوريا ولبنان (وحتى فلسطين). فقد كان الدخول الإيراني إلى العراق سهلا، لأنهم دخلوا مع المعارضة العراقية المسلحة الداخلة مع الغزاة الأميركيين، ومنذ ذلك الحين تنافسوا مع «القاعدة» ومع مبعوثي النظام السوري، ومع الأميركيين، في قتل العراقيين لأسباب مختلفة. وما أخرهم ذلك عن التعاون مع الأميركيين في تثبيت سيطرة المالكي التي لا يزالون يدعمونها حتى اليوم.

وقد كان سهلا عليهم نسبيا (أكثر من العراق) تغطية الاندفاع المذهبي في سوريا ولبنان، بحجة مصارعة إسرائيل. أما لماذا لا تجوز مصارعة إسرائيل (إلى حد قتل من ينظم مقاومة ضدها!) إلا لحزب الله بالتحديد، فهذا علمه عند إيران وحافظ الأسد وولده. وما لدينا (أو علينا) اليوم انقسام عميق باسم الطائفة والمذهب نشرته إيران في العراق وسوريا، ويظهر في الحديث الذي لا ينقطع عن المارد الشيعي واليقظة الشيعية، وهو الانقسام الذي كاد يتحول إلى نزاع مسلح بلبنان عندما احتل حزب الله بيروت بالسلاح عام 2008، وعاد فاستولى على الحكومة أواخر عام 2010.

لقد انفرد الخليجيون من بين العرب بانتهاج سياسات لمواجهة المرض الإيراني المزدوج: مرض نشر مناطق النفوذ بأي شكل، ومرض المساومة والتبادل مع الولايات المتحدة على حساب العرب! فقد بذلت السعودية جهدا كبيرا لتجديد التواصل مع إيران، وبحث سائر الملفات، ووافقت على المشاركة في لجنة «دول الجوار العراقي» للتعاون بعد الغزو، واستقبل الملك عبد الله بن عبد العزيز الرئيس الإيراني أحمدي نجاد مرارا، وتقدم مجلس التعاون بمبادرات. بيد أن ذلك ما أفاد شيئا، ولذلك أقدم الخليجيون على لملمة الأمر في البحرين، ومنع الفتنة في اليمن، والعمل على تأمين المدنيين في سوريا وإحباط محاولات إيران والنظام لإثارة الحرب الطائفية، كما أقبلوا على معارضة نهج المالكي في العراق، ومن ورائه الجنرال سليماني وفيلق القدس في العراق وسوريا!

وفي وجه كل هذه التحديات، وإلى جانب السياسات الدفاعية، تقدمت دول الخليج باتجاه التكتل الاتحادي، الذي يستوعب التهديد الإيراني ويتجاوزه: تكتل سياسي واقتصادي مندمج، وقوة دفاعية معتبرة، وسياسات منتظمة تجاه الأوضاع العربية والإقليمية والدولية. وقد أزعج ذلك إيران إزعاجا شديدا، وكالعادة، ما وجدت طريقة للتعبير عن ذلك إلا بطريقة مذهبية في البحرين!

إنه نهج مدمر ذاك الذي اتبعه نظام ولاية الفقيه في فترتي رئاسة محمود أحمدي نجاد للجمهورية الإسلامية. وما جلب لإيران غير المشكلات والحصار الذي بلغ الذروة في السنتين الأخيرتين بسبب الملف النووي. لكن حتى في التوتر بشأن النووي، تعمل إيران بشكلين يتقصد كلاهما العرب: الرد على الحصار بتهديد دولة الإمارات والبحرين عسكريا، وانتهاج تكتيك رفع سعر النووي، وإمكان مبادلته في الوقت نفسه بمناطق النفوذ أو ببعضها!

يقول معلقون إيرانيون مقربون من النظام هناك: إن هذه السياسات سوف تتغير في السنوات القليلة القادمة، وعلى العرب أن يبذلوا جهودا أكبر للمصالحة! لكن حتى لو كان ذلك صحيحا؛ فإن الضرر وقع، ومن الصعوبة بمكان إخراج العراق والبحرين ولبنان منه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.