ألمانيا واليونان وثروة الأمم

TT

كيف تصبح الأمم غنية؟ ربما يُنظر إلى هذا السؤال على أنه حجر الزاوية في الفن، أو ربما يقوله البعض في العلوم والاقتصاد. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يختار آدم سميث، الذي يعد أبو الاقتصاد الحديث، «ثروة الأمم» كعنوان لأطروحته الثرية بالأفكار حول هذا الموضوع.

ومع ذلك، يؤمن سميث بأنه لا يمكن توضيح السبب وراء فقر أو رخاء الأمم باستخدام المصطلحات الاقتصادية وحدها، ولهذا السبب قام في عام 1759 بنشر كتاب «نظرية المشاعر الأخلاقية» الذي يلقي الضوء على دور الحكم الأخلاقي وحكم الضمير والفضائل في صياغة التاريخ البشري.

ومنذ ذلك الحين، تحول دور الثقافة في خلق واستمرار الاقتصاديات الوطنية إلى موضوع رئيسي للبحث والنقاش العام. إن الفهم المبسط لماركس قد أقنع الكثيرين بأن «البنية التحتية» الاقتصادية هي التي تحدد «البنية الفوقية» الثقافية. وعلى الجانب الآخر، ساوى ماكس فيبر - من بين علماء آخرين - بين الازدهار والرأسمالية، وبين الرأسمالية والبروتستانتية. إن الفضائل اللوثرية المتمثلة في التدبير والاعتماد على الذات والعمل الجاد هي التي تمكن البلدان من تطوير أنظمة رأسمالية حقيقية تعمل بدورها على ازدهار تلك البلدان.

وفي ضوء الركود الحالي في الغرب، بات دور الثقافة في تحديد النتائج الاقتصادية موضع نقاش حاد مرة أخرى، وأصبح مطلوبا من ألمانيا الحكيمة والمقتصدة أن تنقذ اليونان المبذرة والمتهورة من الغرق في الديون. وأصبح الألمان، كما قيل لنا، أغنياء لأنهم يدفعون الضرائب ولا يقترضون لكي يفرطوا في الإنفاق. وفي المقابل، فإن اليونانيين يعانون بشدة لأنهم يخدعون حكومتهم وتخدعهم حكومتهم في ما يتعلق بالاقتراض والإنفاق.

لقد اعتمد الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي كثيرا على «النموذج الألماني» الذي اكتشفه متأخرا، ويبدو أن خليفته فرانسوا هولاند سوف تكون لديه أوهام مماثلة.

وقيل لنا أيضا إن «جنوب أوروبا يختلف عن شمال أوروبا». وثمة عدد من الكتب الجديدة يوسع نطاق تلك النظرة إلى ما هو أبعد من أوروبا، ويدعي أنه كلما اتجهنا ناحية الجنوب قل عدد الدول التي يمكنها تحقيق الازدهار. والسؤال الآن هو: هل يمكننا أن نطلق على هذا الاتجاه اسم «العنصرية الجغرافية»؟ وهل هؤلاء الذين يدعمون هذه النظرية يحاولون إخفاء معتقداتهم الحقيقية بشأن تفوق هوية عرقية معينة و/أو معتقد ديني معين؟ ولأننا لا نعرف الإجابة، دعونا لا نطيل الحديث في هذه المسألة. وما يهم الآن هو العيوب ونقاط الضعف الموجودة في تلك النظرية نفسها. ودعونا نتفق أولا على أن الموقع الجغرافي المتميز للدولة لا يشكل ضمانة لسلوكها الاقتصادي، حيث إن أيسلندا وآيرلندا تقعان في الشمال على مسافة بعيدة للغاية من اليونان، وعلى الشمال من ألمانيا أيضا، وعلى الرغم من ذلك فقد أعلنتا إفلاسهما. وإذا ما انتقلنا للحديث عن البروتستانتية، فإن شعب أيسلندا ينتمي للبروتستانتية أكثر من الألمان الذين ينتمي ثلثهم على الأقل للكاثوليك، ناهيك عن أن نحو 20 في المائة من العاملين في مجال الصناعة الألمانية من المسلمين. لكن ماذا عن اتهام مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد لليونانيين بأنهم يحتالون على الضرائب؟ بالطبع، يتهرب اليونانيون من الضرائب، لكن الاحتيال الضريبي في اليونان يتم على نطاق بسيط للغاية مقارنة بما يحدث في ألمانيا، حيث صرحت الحكومة الألمانية بأن نحو 1.2 مليون مواطن ألماني لديهم حسابات مصرفية غير شرعية في ملاذات ضريبية.

وعلاوة على ذلك، تتهرب عشرات الشركات الألمانية من تسديد الضرائب عن فروعها المنتشرة في جميع أنحاء العالم.

والشيء المثير للاهتمام أنه لا ألمانيا ولا اليونان تأتي ضمن قائمة أول عشرين دولة في العالم من حيث دخل الفرد السنوي، والتي تضم 15 دولة تقع في الجنوب من ألمانيا واليونان، وهي قطر وبرمودا وسنغافورة وجزيرة جيزي وجزر الفوكلاند وبروناي وهونغ كونغ والإمارات العربية المتحدة وجزيرة غيرنسي وجزر كايمان ومنطقة جبل طارق والولايات المتحدة وأستراليا والكويت.

وقد احتلت قطر والإمارات وبروناي وجزر الفوكلاند هذه المراكز المتقدمة لأنها دول غنية بالنفط والغاز الطبيعي. ويمكن أيضا إضافة النرويج، التي تأتي في المركز الثامن، لأنها أيضا دولة غنية بالنفط.

وتأتي ليختنشتاين في مقدمة عدد من الدول أو «المقاطعات» التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على «الودائع الأجنبية»، وهو الاسم المهذب لغسل الأموال. والسؤال الآن هو: ما الذي ينتجه سكان ليختنشتاين، الذين لا يتجاوز عددهم 25.000 مواطن، ويقومون بتصديره حتى يصل دخل الفرد في العام إلى 141.000 دولار ليكون أعلى معدل دخل في العالم؟ والإجابة هي أنهم لا ينتجون أي شيء، لكن السبب وراء تلك الطفرة هو الحسابات المصرفية السرية التي يودعها الأجانب.

وتعتمد 16 دولة من ضمن العشرين دولة التي تشملها تلك القائمة إما على صادرات الطاقة أو «التسهيلات المصرفية». وثمة أربع دول فقط تعتمد على مزيج اقتصادي طبيعي وهي الولايات المتحدة وهولندا والنمسا وأستراليا. وحتى في هذه الحالة، قد تكون الحقيقة أكثر تعقيدا، فعلى سبيل المثال، إلى أي مدى يعتمد الرخاء الأميركي على حقيقة أن عشرات الدول الأخرى، لا سيما الصين، مستعدة لشراء سندات الحكومة الأميركية بأسعار فائدة منخفضة للغاية أو حتى من دون أي فائدة؟

ولكي تكون الدولة غنية يجب أن تكون صغيرة، حيث تضم قائمة أفضل 20 دولة من حيث دخل الفرد السنوي 12 دولة لا يزيد عدد سكان كل منها على مليون نسمة.

ومن بين أكبر 30 دولة من حيث عدد السكان، توجد دولة وحيدة، هي الولايات المتحدة، احتلت لنفسها مكانا ضمن قائمة أغنى 20 دولة.

ومما يفيد أيضا أن تكون الدولة مكونة من جزيرة، أو على الأقل شبه جزيرة، حيث ينطبق ذلك على 10 من ضمن أغنى 20 دولة.

ولعل الأكثر أهمية أن الدولة لا تصبح غنية عن طريق فرض الضرائب، فمن بين قائمة أغنى 20 دولة، يعتبر ما لا يقل عن 12 دولة منها مناطق خالية من الضرائب. وباستثناء النرويج، فإن كل الدول الأخرى تعد من ضمن البلدان التي تفرض ضرائب محدودة. ولا تحتل أي دولة من بين أعلى 30 دولة فرضا للضرائب مكانا ضمن قائمة أغنى الدول في العالم. وبالتالي، فإن المحنة الحالية التي يمر بها اليونانيون ربما لا تعود بالكامل إلى تهربهم المزعوم من دفع الضرائب.

وباختصار، فإن الدولة تصبح غنية عندما تكون جزيرة أو شبه جزيرة، وأن يكون لديها عدد صغير من السكان، وأن تدير نشاطا موسعا لغسل الأموال، وأن تتوافر لديها كميات كبيرة من النفط و/أو الغاز، وأن تفرض ضرائب بسيطة أو لا تفرض أي ضرائب على الإطلاق، وبعبارة أخرى أن تكون أبعد بقدر الإمكان عما يسمى «النموذج الألماني».

وحتى عندئذ، فإن امتلاك الكثير من الأموال لا يعني أنك ثري بالمعنى الذي كان يقصده آدم سميث، ذلك أنه يوجد فارق كبير بين «التمول» والغنى. فربما يكون لديك الكثير من الأموال، لكن ليس لديك تلك الأشياء غير الملموسة، مثل عدم اليقين بشأن الوضع الإنساني، التي من دونها لا يمكننا أن نتذوق الحياة بكل حلوها ومرها.

فهل تفضل أن تعيش في ليختنشتاين أكثر من اليونان؟