يا غايبين

TT

كتبت لجنابكم مرارا في الموضوع: إرهاب الإشاعة في لبنان. الحقيقة أنه يستخدم سلاحا في كل البلدان والأزمان. وحتى في الحالات العادية. فالناس عموما لا تسأل عن حقيقة ما سمعت، أو عن مدى صحة ما سوف تنقل. انظر حولك، كم من أصدقائك يردد كالببغاء، طعنا في شخص لا يعرفه وفي قضية لا يعرف عنها شيئا. وكم من الكرامات أهدرها وتعدى عليها ثرثار يعيش من النقل. وكم من بيوت خربها ناقل إشاعات مثل الحشرات التي تنقل الأوبئة من دون أن تعرف ماذا تفعل. فهي تحط في مكان وتطير إلى مكان من دون أن يعنيها شيء.

في لبنان البالغ الهشاشة والتفرق والعطوبة وندرة الضمائر يمكن للإشاعة أن تشعل حربا قابعة في الانتظار. والذين يعدون للحرب يعدون أولا إشاعاتها وسمومها. يوما السبت والأحد الماضيين عشنا تحت رحمة النفي والتأكيد: من ينفي أن مخطوفي حلب قتلوا ومن يؤكد أنهم أحياء. وقف البلد برمته على حافة قشة قريبة من حريق.

سبق ذلك مظاهر من الحرب الأهلية، واستقواء الفوضى المسلحة على دولة ضعيفة وحكومة منقسمة، يهدد وزراؤها بعضهم البعض، ويهددون جميعا جميع اللبنانيين. مع خطف بوسطة اللبنانيين في حلب تذكر الجميع بوسطة عين الرمانة التي أحرقت لبنان في أبريل (نيسان) 1975. كل حادثة لها رعب حادثة أخرى في لبنان. كل بوسطة أو سيارة مفخخة لها ظلال دموية وثقيلة، كل عملية خطف أو اغتيال لها في اللاوعي اللبناني تخيلات الزلازل الوطنية في بلد ليست الوطنية فيه أكثر من وجهة نظر.

فعندما غرق غرب بيروت بالرصاص طوال ليلة كاملة حول مكتب السيد شاكر البرجاوي، ظنت الناس أن 8 آذار تطلق النار على أحد رجال 14 آذار. كان هذا جهلا بطبيعة المتغيرات في لبنان. فقد تبين أن الريس البرجاوي انتقل منذ فترة غير قصيرة إلى رحاب 8 آذار بعد رحلة طويلة مع الناصريين والمرابطين وسجون دمشق ثم 14 آذار. لا. ليس الرابع عشر منه، بل الثامن الذي يصادف أيضا ذكرى الثورة السورية المجيدة والمعروفة بالتاريخ نفسه ولكن في سنة سابقة.

سمعنا عشرات الإشاعات عن الخاطفين والمخطوفين، وبدل أن نهدد المرتكبين هددنا لبنان. وبدل أن تحمَّل المسؤولية للدولة السورية حيث وقع الخطف، خرج الجميع يحملها للدولة اللبنانية. والدولة اللبنانية مسكينة، الدولة اللبنانية كانت منهمكة بإقناع الزوار الخليجيين بالعودة. «يا غايبين ارجعوا» على ما غنى وديع الصافي أيام الصفاء.