سيدي وصديقي

TT

شيء كثير من خصائص لبنان يغيب معه. كان رجل الآفاق في الصحافة وفي السياسة، كان حارس المصالحات، وفي الدبلوماسية كان سيد المنابر الأممية، فهو الذي هتف من الأمم المتحدة خلال الحرب اللبنانية: دعوا شعبي يعيش. وهو الذي قال فوق نعش ابنه الشهيد جبران: فلندفن الحقد والثأر. بالنسبة إلينا، نحن الذين رافقناه نصف قرن، كان هو دائما رائد الصحافة ورؤية الوطن. تغير لبنان في كل متغيراته الدامية والدِميوية، وظل «نهار» غسان تويني صخرة الوحدة وحارس السلم الوطني. ولدت «النهار» قبل نحو 80 عاما، في وسط العاصمة وظلت في قلب لبنان، العربي، المتعدد، العريق، الحالم، وعاشق الجماليات.

كان غسان تويني سيرة ملحمية كبرى، بأحزانه العائلية الخاصة وصموده الوطني العام. كان نائبا ووزيرا وسفيرا لدى الأمم المتحدة، لكنه كان دائما صحافيا طليعيا شجاعا وحداثيا. وكان أستاذا جامعيا واسع الأفق ومحاضرا بارزا في جامعات العالم الكبرى من هارفارد، حيث درس، إلى أكسفورد إلى برنستون. وكانت حيويته المذهلة تتسع لكل هذه الشخصيات التي جبلته وجبلها بقاسم دائم: الاستنارة والسماح.

كان مثقفا لا يكتفي ولا يرتوي. وكان شاعرا طالما ندم على أن الصحافة أخذته من الشعر. وكان بارعا في اللغات. وكان محبا للآثار يذهب إليها من الأقصر إلى اللوفر. وكان يجمع اللوحات والكتب والتحف من اليمن إلى عمان. وعندما بنى بيته في بيت مري قبل أربعين عاما جعل أبوابه من صنعاء ونوافذه من آثار لبنان وأدراجه من مصر وعبقه من البادية التي قال إن أجداده أتوا منها. وطالما بحث عن أنسابه في الكويت ومسقط والعراق.

يوم فقد ابنه مكرم، كتبت إليه: «سيدي وصديقي». وقد تعرضت الصداقة للغضب أحيانا، خصوصا عندما طلبني إلى رئاسة تحرير «النهار»، عام 1983 وعام 1988. وفي المرة الثانية وقعت عقدا ثم خذلته، فعلِّقت المهاتفات والدعوات. وكذلك الصداقة، لكنه ظل دائما سيدي. وبقيت أقول «الأستاذ» ولا أعني أحدا سواه. وكم كنا نفاخر بأننا سوف نبقى تلامذة في حضرته. بل ربما لا نستحق هذا الادعاء. تركت العمل المكتبي في «النهار» لكنني لم أتركه يوما واحدا. ظل «يأمرني» أن أرافقه إلى كل مكان، من واشنطن إلى صقلية إلى دبي إلى الرياض إلى القاهرة إلى كيبك إلى قرى لبنان. لم يكن لي معلم سواه. وبعدما دب فيه التعب، صرت أقبل يده، على قول شوقي: قم للمعلم.