ماذا جرى لـ«الربيع العربي» بعد 15 شهرا؟

TT

بعد صدور الحكم فيما عرف بـ«قضية القرن» في مصر: كتبت جريدة «الإندبندنت» البريطانية تقريرا متشائما وصفت فيه الحالة بأن «ظلا ما يخيم على الربيع المصري».

وقد تكون الصحيفة مبالغة في تقريرها وتقييمها.

بيد أنه بتجريد الحالة من المبالغة، يبقى هناك ما يثير القلق والمخاوف. فمن عقلاء مصر أنفسهم من يبدي خوفه من مآلات المستقبل في بلاده.

لماذا انقلبت النشوة بزوال رأس النظام السابق إلى هذا المستوى من الانزعاج والخوف؟

ثمة أسباب عديدة: بسيطة ومركبة، لعل أعمقها وأبرزها:

1 - المبالغة الهائلة في تصوير ما وقع بأنه «ثورة لا مثيل لها في التاريخ الإنساني» وبأن هذه الثورة ستخرج مصر - سراعا - من التخلف إلى التقدم، ومن الديكتاتورية إلى الديمقراطية، ومن القحط المعيشي إلى مستوى من الازدهار الاقتصادي الرائع. ومن القلق والاضطراب إلى الاستقرار المكين، ومن الخوف من الغد إلى استبشار بهيج بالمستقبل.. إلى آخر الصورة الوردية التي رسمتها الأماني العراض.. وعندما لم يحصل ذلك: باء الناس بالإحباط والمرارة والمخاوف المتنوعة.. فالسبب - من هنا - هو الإسراف في رسم الصورة الوردية. فمن طبيعة الإنسان أنه إذا أمّل في شيء أملا كبيرا، ثم لم يجده: امتلأ حسرة وإحباطا.

وهذه نقطة جد مهمة ينبغي إشباعها بمزيد من الوقائع:

أ - في إبان الموجة الاشتراكية العالية: بُشِّر الناس برغد من العيش غير مسبوق. وبما أن الإمكانات وطبيعة الاشتراكية لا يحققان ذلك على أرض الواقع، فإن تلك الوعود المجنحة تبخرت تحت ضغوط الواقع المعيشي المرير.. وهذا هو السبب الرئيسي في «كفران» الناس بالاشتراكية الموهمة - إن صح التعبير -

ب - حين انخرط الشعب الأفغاني في كفاح واجب وصدوق ضد الاتحاد السوفياتي المحتل - يومئذ -.. وقد كان لهذا الكفاح قادة بطبيعة الحال -.. وهؤلاء القادة بشر من البشر: لهم استقامتهم وصدقهم، وفيهم أهواؤهم وطموحاتهم، لكن في ذروة الكفاح، ومن أجل تشجيع هؤلاء القادة على الكرّ الطويل النفس على أعدائهم.. في تلك الذروة وجد هؤلاء القادة من الثناء والتقدير ما يفوق حقيقتهم حيث صوروا وكأنهم كوكبة من الملائكة الأطهار (كما يحصل الآن لبعض الإسلاميين في الربيع العربي). فلما اختلف قادة الكفاح الأفغان على «الدنيا»، أي على مراكز الدولة ومفاصلها: أصيب الناس بصدمة شديدة، ولو كان هؤلاء الناس واقعيين ينظرون إلى أولئك القادة بأنهم بشر من البشر فيهم الصدق وفيهم الهوى والغرض لَمَا أصيبوا بتلك الصدمة الشديدة.. أو - على الأقل - لكانت صدمتهم أخف وألطف.

خلاصة السبب الأول للعتمة الحاصلة في مصر هي:

الإسراف في الأماني الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والإسراف - كذلك - في الثقة بالسياسيين والأحزاب السياسية.

2 - السبب الثاني للعتمة الحاصلة في مصر هو «فقدان الرؤية» الاستراتيجية.

إن مصر دولة مركبة غير بسيطة، كبيرة غير صغيرة، متجذرة - في التاريخ والحضارة - غير سطحية، عرضة للتغيرات العديدة غير جامدة ولا هامدة.

وبلد هذه طبيعته، وهذا شأنه لا يدار التحول فيه بالخواطر والانطباعات والذكاء المجرد، أي الذكاء غير المدعوم بالدراسة والبحث: النظري والميداني.. نعم، لا يدار مثل هذا البلد إلا بـ«رؤية استراتيجية» تستغرق الأبعاد الزمنية الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل، وما جرى وما سيجري في كل بعد: من نجاح وفشل.

ومن الواضح: أن هذه الرؤية لم تكن موجودة غداة اندلاع الثورة المصرية في مطلع عام 2011.. وهذا الوضع معلّل بما يلي:

أولا: لم تكن هناك «خريطة فكرية» واضحة المعالم والأهداف: كفلسفة للثورة، وقائدة لخطاها.. ولهذه الحال نفسها علة دفينة مفردة وهي: أنه لم يكن هناك «رواد فكريون» - بالمعنى الموضوعي للتعبير -.. فمن المعروف مثلا: أن الثورة الأميركية قد نجحت وانضبطت - إلى حد ما - بسبب وجود رواد فكريين كبار لهذه الثورة من أمثال «تومس بين» الذي يوصف بأنه «اللسان المعبر عن الحراك الأميركي كله» قبيل الاستقلال وفي أثنائه.. والنضج الفكري الأميركي واضح جدا في «وثيقة الاستقلال» الأميركية: تفكيرا وتعبيرا، أو مضمونا ولغة.. ثم إن هذه الوثيقة نفسها قد غدت خميرة الدستور الأميركي الذي قاد خطى الولايات المتحدة الأميركية عبر أكثر من قرنين متتابعين.

ثانيا: السبب الثاني لهذه العتمة: فقدان الرؤية - كذلك - تجاه «الأسس الضرورية والموضوعية» لإعادة بناء الدولة.. ومن تلك الأسس:

أ - الدستور.. أوليس عجبا من العجب: أن تجرى انتخابات رئاسية دون دستور؟!.. وكتابة الدستور ليست مجرد إجراءات وصيغ، بل هي - قبل ذلك - رؤية واضحة للمضامين الكبرى التي ينعقد عليها الاتفاق الوطني، ويطمئن الجميع إلى عدالتها وجدواها وفعاليتها: كطبيعة الدولة، والمبادئ الموجهة للدستور والأمة مثلا.

لقد انقضى عام ونصف وعام - تقريبا - على قيام الثورة المصرية، وهي مدة كافية لبلورة دستور واضح وراسخ.. فلماذا لم يحصل ذلك؟.. أهو الغرق في تفاصيل هي دون الأهمية الدستورية بكل تأكيد؟. أهو الكسل والعجز؟. أهو تقديم «الشأن الحزبي» على «الشأن الوطني»؟

ب - صلاحيات رئيس الجمهورية (وهي جزء من الدستور الذي لم يوضع حتى الآن).. لو أن الجولة الأولى في الانتخابات أدت إلى تفوق أحد المرشحين بنسبة كبيرة لأصبح لمصر الآن رئيس للجمهورية، ولكنه دون صلاحيات!!.. فلماذا هذا التنكيس في الأولويات؟.. هل من أسباب ذلك: الانتظار حتى يُعرف اتجاه رئيس الجمهورية (أهُو علماني أم ديني) ثم تفصل الصلاحيات على قدّه؟!

ج - صلاحيات المجلس النيابي.. فعلى الرغم من انتخابه منذ شهور لا تزال صلاحياته غامضة تجاه الحكومة (التي أبت أن تخضع لمساءلته)، وتجاه رئيس الجمهورية الذي لم تحدد صلاحياته هو نفسه.

د - يضم إلى ذلك «تسيير شؤون الدولة المجتمع»، فهناك اضطراب في هذا المجال: فالمعايش تزداد سوءا.. والأمن يزداد ترديا.. والنسيج الاجتماعي يزداد تمزقا بل امتد سوء الأوضاع إلى الإسلام نفسه فحملات تشويه الإسلام تزداد سعارا من حيث أن هذه الحملات تفترض أن الإخوان المسلمين هم «الإسلام»!! ولما كان أداؤهم السياسي - في البرلمان وغيره - موضع سوء ظن وريبة، فإن سوء الظن هذا عكسه البعض - بجهالة أو بخبث - على الإسلام ذاته.

والظلام المخيم على الربيع المصري - حسب تعبير «الإندبندنت» - هو وصف يشمل دولا أخرى غشاها الربيع العربي.. فالدولة اليمنية تتعرض لمخاطر شتى في جنوبها وشمالها ووسطها، وكلما بذلت جهود لتحسين الأوضاع، نشطت الأيدي المخربة - التي دأبت على التخريب - لتفشل تلك الجهود: الداخلية والخارجية.. أما ليبيا فهي على حافة هاوية سحيقة، بعد تهيؤ بعض الأقاليم للانفصال، وبعد استيلاء كتائب مسلحة على مطار طرابلس، وبعد الهجوم على الشرطة العسكرية في بنغازي، وفي ظل حكم مركزي ضعيف وقليل الخبرة ومضطرب القرار. ولكي لا يزداد الظلام سوادا نقول: لا شك أن مشكلات الديمقراطية وأخطاءها أخف وأقل تكلفة من مشكلات الديكتاتورية وخطاياها. فمشكلات الديمقراطية ناتجة عن فهم خاطئ لها وللحرية - بالتالي -.. أما مشكلات الدكتاتورية فهي «إعدام الحرية».. وفرق كبير بين حياة تشوبها أخطاء يمكن إصلاحها وبين موت يذهب بالحياة نفسها.

ولسنا نعيب على الآخذين بالديمقراطية. فهذا خيارهم، وإنما نعيب عليهم أنه أقفلوا باب الاجتهاد فيها ومن ثم عجزوا عن استنباط «النموذج الوطني للديمقراطية» المتكيف مع الجغرافيا السياسية للناس، وهو عجز سببه الكسل الفكري الذي يستسهل الاستيراد، ويستصعب الإنتاج والإبداع.