العبث في بر مصر

TT

نشاهد في مصر الآن مسرحية هزلية من كوميديا العبث: ردود فعل الثوار على نتائج جولة أولى من انتخابات طالبوا بها ثم تغير مزاجهم فرفضوا قواعد اللعبة بين فصلي المباراة؛ وردود فعل أكثر جنونا على حكم القضاء على الرئيس السابق حسني مبارك. مثقفة أدانت «الحكم الظالم» لممثل تلفزيون «الجزيرة» القطري الدائم في الميدان: «الحد الأدنى لازم إعدام مبارك». فما هو الحد الأقصى لإرضاء المدموزيل الثورية.. سحب المشنوق مبارك من أظافر قدميه تدريجيا في مستويات جحيم كوميديا دانتي؟

تشكيك هستيري في نزاهة القضاء، رغم مسؤولية الثوار أنفسهم عن إخفاق الادعاء في تأمين أحكام (أصدرها الثوار مسبقا) ضد جمال وعلاء مبارك. فالقضاة (والمحلفون في الأنظمة المتقدمة) يدرسون ملف الادعاء (النيابة) لإصدار الحكم بموازنة الأدلة وإجابات الشهود بما لا يرقى إليه الشك مقابل ما ينجح الدفاع في التشكيك في صحته.

ولأنه من المستبعد انحياز القضاة لمبارك (حتى بافتراض تغلغل الفساد فهل يخاطر قاض عاقل بتحدي الثور الهائج المندفع؟) فهناك احتمالان:

أن التهم المنسوبة مصدرها شائعات نقلتها الصحافة عن الثوار ولم تبن على أدلة مادية.

أو أنه لإرضاء الثوار تسرعت النيابة ببدء مرافعات الاتهام قبل اكتمال الأدلة، خاصة أن القضاء المصري (أقل مؤسسات الدولة تضررا بعبث ضباط انقلاب 1952) لا يزال يتبع العدالة المتحضرة بتفسير الشك لصالح المتهم. فإذا كان ثوار التحرير والمثقفون جادين في استعادة الديمقراطية، فهي لا تقوم بلا حكم قانون ضابطه النهائي قضاء متحضر مستقل عن العواطف والتقلبات يحكم بالأدلة المجردة. أو البديل قضاة من روايات «ألف ليلة وليلة» يصدرون الأحكام على مقاس مزاج المستمتع بصوت شهرزاد بإغرائه المثير، ويكون كمجلس قبائل طالبان الذي حكم (ونفذ بوحشية الأسبوع الماضي) بذبح فتيات بجريمة الغناء في عرس مختلط الجنسين في وزيرستان.

الثوار في مظاهرات مطالب الانتقام (وليس العدالة) يتحملون مسؤولية خروج النيابة عن المألوف، إذ كان يفترض البدء بتجريد هذا النوع من القضايا من البعد السياسي والضغوط الآيديولوجية ليكون القانون الجنائي مقياسها الوحيد.

الادعاء والدفاع يطلبان التأجيل في الجلسة الأولى، فتقتصر أهميتها على تسجيل موقف تاريخي بأن رئيس الدولة خاضع للقانون والجميع متساوون أمام العدالة. للأسف بدلا من شرح الحقائق للشعب تحولت الصحافة ومعلقوها إلى عزف طبول الانتقام الغوغائي.

ولتكون القضية محاكمة للنظام نفسه توقعت استمرارها لسنوات لا لأشهر، والادعاء يكرر طلب التأجيل لجمع أدلة عمرها 30 سنة، والدفاع بدوره يقدم ما يفند الأدلة ويبحث عن ثغرات التشكيك فيها فيتاح للشعب معرفة معلومات أخفيت عنه.

خالد شيخ محمد، المتهم الرئيسي بتدبير أكبر جريمة قتل متعمد عرفها التاريخ الحديث في 11 سبتمبر (أيلول) 2011، لم تبدأ محاكمته إلا بعد عشر سنوات من القبض عليه وشركائه، انهمك محامو الادعاء أثناءها في جمع الأدلة.

استمرار الثوار المصريين في التظاهر لهدف هزيل (الانتقام من مبارك وابنيه) أنساهم الهدف الاستراتيجي الأكبر، وهو إعادة بناء الديمقراطية المصرية، ودفع بالنيابة لإرضائهم بالإسراع بمحاكمة لم يتوقع القانونيون أن تبدأ قبل ثلاث سنوات على الأقل.

ومضيا في العبث تجاهلت الفضائيات غير المسؤولة فقهاء القانون وإثارة مناقشات إعداد الطعون واستئناف الحكم، فصوبت الكاميرات والميكروفونات نحو متظاهري الميدان ليستمر مسلسل تخريب الاقتصاد وتطفيش السائح والمستثمر وتشويه سمعة القضاء المصري.

والحماس نفسه كان رد الثوار على تراجع مرشحهم صباحي، الثائر بماركة «بالروح بالدم هنحارب كل الدنيا» وبحلم استنساخ الديكتاتورية الناصرية، إلى المركز الثالث (بفارق مليون صوت عن الأول) بمظاهرات تطالب بتغيير قواعد اللعبة التي وضعوها بأنفسهم، محاولين إلغاء الشوط الثاني من مباراة تحمسوا لبدايتها.

للأسف توقعنا هذا العبث في 9 أبريل (نيسان) 2011، وحذرنا في هذه الصفحة من التفاؤل بما سماه البعض بـ«الربيع العربي». وكررنا أن الديمقراطية ليست مجرد انتخابات حرة، وإنما هياكل بناء (building blocks)، وإرساء للقانون، وحذرت (4 يونيو/ حزيران، 2011) من أن ما يهدد مصر هو ثورة بلا بوصلة ستدفع بالشعب للاستبدال بالديكتاتورية المباركية (كالفصل الثالث من ديكتاتورية يوليو/ تموز، 1952) ديكتاتورية ظلام القرون الوسطى، لتخنق أذرع أخطبوط الكراهية مستقبل الأمة.

اتضحت العلامات في الأيام الأولى من «انتصار ميدان التحرير». فالاحتجاجات التي بدأت في 25 يناير (كانون الثاني) لم تفرز قيادة تعلن أهدافا، بعكس ثورة 1919 التي تعد بكل المقاييس أنجح ثورات التاريخ المصري الحديث لوضوح أهدافها منذ يومها الأول.

ظل شعار الثورة الفرنسية «الحرية.. الإخاء.. المساواة» هدفا ترجم إلى دستور لا يزال مطبقا اليوم. ثورة 1919 رفع سعد زغلول شعارها بإنهاء الحماية واعتراف المجتمع الدولي بدولة ملكية دستورية ديمقراطية الحكم إكمالا لمسيرة بدأها محمد علي قبل قرن.

في 2011 سمعنا هتافات وليس أهدافا ثورية: «إسقاط النظام»، وتبعه «ارحل.. ارحل».. فرحل الرجل بالهليكوبتر.. طيب.. وبعدين؟

المثقفون وثوار الميدان يساقون بشعاراتهم إلى نفق حفرته جماعة (قال مرشدها علنا «طز في مصر» معلنا تفضيله أن يحكم البلاد إندونيسي يقبل يد الكاهن الأعظم على انتخاب مصري يحترم القانون «الوضعي»)، لها هدف محدد وفق استراتيجية رسمت في عشرينات القرن الماضي.

ثوار مساقون إلى صدام مع المؤسسة العسكرية (التي حمت مصر والجماهير، رافضة القيام بما ارتكبه عسكر ليبيا وتنفذه عسكرتارية سوريا)، ليكون الفائز جهاز الإرهاب السري المسلح بتمويل خارجي ضخم يتناسب عكسيا مع الحجم الفعلي للكيان السياسي الخارجي. استراتيجية مرسومة للاستيلاء على مصر كخطوة أولى لتحقيق ما أسست الجماعة أصلا من أجله: تصحيح «الإثم» الذي اقترفه أتاتورك قبلها بأربع سنوات بإنهاء خرافة الخلافة. وما التلونات ونكث العهود والاغتيالات وتشعب التنظيمات كالجماعة الإسلامية، وتنظيم الجهاد ومشتقاته كـ«القاعدة»، إلا تكتيكات مرحلية في استراتيجية تحقيق الخلافة و«طز في مصر».

المثقفون وثوار الميدان بلا استراتيجية، ومطالبهم لم تتغير مضمونا عن هتافات 2011: «اشنق.. اشنق» بديلا لـ«ارحل.. ارحل».. فيساقون إلى «تفليل» (من فلول) المرشح موضع ثقة المستثمرين والاقتصاديين والجيش، وحجتهم عدم الرجوع بمصر إلى 24 يناير 2011. أكاديمية مصرية قالت على «فيس بوك» إن الرجوع 18 شهرا يمكن بعدها الانطلاق للأمام، أفضل من العودة إلى عصور تكفير من يتحدى خرافة دوران الشمس حول الأرض.