دولة المرشد بين إيران و«الإخوان»

TT

عبر قرون وقرون كان التاريخ في مجراه الكبير يحمل الكثير من التناقضات، تلك التي تشير إلى تصرفات البشر كأفراد أو مجموعات، وكدول وإمبراطوريات، كانت تنطلق من دوافع غرائزية لم تلبث أن تحولت إلى دوافع أكثر تعقيدا أخذت في التبلور على شكل قبلي وأممي وديني وطائفي.

لقد خرجت، باتساق مع حركة التاريخ ومتغيراته، قراءات لفهم ذلك التاريخ بدأت كمناهج أولية حاولت الحفاظ على توازنها المعرفي، ثم تطورت لاحقا لتستقل بكونها علوما جديرة بالاستقلال العلمي، وهي العلوم الكبرى التي تفرعت عن الفلسفة، ولم تزل تتشكل وتتخلق كلما دعت الحاجة وتطور البشر.

حتى لا ننساق مع تنظير عام، فإن التاريخ الحديث يشير إلى أن حركات الإسلام السياسي وخطاباتها قادرة فكريا وتنظيميا على عبور الخطوط السياسية والطائفية الحمراء، بغية الوصول لهدف الاستحواذ الكامل على السلطة السياسية باعتباره هدفا أسمى يتلو الاستحواذ على السلطات الأخرى.

في التمهيد للثورة الإسلامية في إيران، فقد كان بعض منظريها، كعلي شريعتي، متأثرا بأفكار بعض حركات الإصلاح الديني العربية، ثم حدث تلاقح مستمر بين الإسلام السياسي في نسخته السنية ونسخته الشيعية، ونستطيع تذكر دور نواب صفدي والتأثير المتبادل بينه وبين «الإخوان المسلمين» وقد ذكر جزءا منه علي الطنطاوي في ذكرياته، كما يوضح السيد طالب الرفاعي مؤسس حزب الدعوة العراقي مزيدا من هذا التبادل بين «الإخوان المسلمين» وحركات الإسلام السياسي الشيعية في أماليه التي نشرها الباحث الجاد رشيد الخيون، كما أن الخميني قد تأثر كثيرا بطروحات المودودي الذي كان ملهما لسيد قطب، وقد ألف على منواله كتابه «الحكومة الإسلامية»، ثم عاد المودودي بعد نجاح الثورة الإيرانية ليتمنى أن يكون مثل الخميني.

إن الثورة ضد الشاة كانت تضم أطيافا متعددة منها الليبرالي واليساري والقومي والديني، غير أن الخميني استطاع بعد نجاح الثورة أن يزيح الجميع، وأن ينتصر في كل الخصومات السياسية ليثبت نفسه مرشدا أعلى تجتمع في يده كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ونستذكر هنا ما قاله المفكر الإيراني محسن ديكور: «لم تكن الثورة الإيرانية ثورة إسلامية دينية، بل ثورة وطنية، شارك فيها فئات من الشعب يعملون في إطار التيار الليبرالي والجبهة الوطنية والتيار اليساري. لم يتوقع الذين شاركوا فيها حتى من رجال الدين في الأيام الأولى بعد قيامها أن تصبح لهم اليد العليا في السلطة» («الشرق الأوسط» 13 فبراير/ شباط 2009).

لقد استخدم المرشد الإيراني بذكاء كل أدوات الصراع السياسي في لحظتها التاريخية، فبالتخويف من عودة نظام الشاه وبقاياه، استطاع قمع بعض خصومه، كما استطاع عبر انتخابات محكومة بلحظتها التاريخية أن يمرر انتصار الحزب الموالي له «جمهوري إسلامي» في البرلمان ثم يفعل من خلاله ما يشاء، ثم تفرغ لاحقا لا لإعادة كتابة دستور جديد فحسب بل لإعادة صياغة مفهوم الدستور نفسه، وباختصار فقد استطاع ركوب كل الموجات والشعارات والتوجهات حتى أعلن دولة المرشد وألغى الجميع.

والمقارنة تفرض نفسها هنا، فما يجري في مصر اليوم يوحي بكثير من التشابه مع ما جرى في إيران بالأمس، فالمشتركات كبيرة، وإن اختلف التوقيت وموازين القوى. إن عين المراقب لا تكاد تخطئ أن «الإخوان» يصنعون الأمر ذاته، فهم يخوفون من قوى النظام السابق، وهم بعد تصريحهم بعدم الترشح في البرلمان عادوا للاستحواذ على الأكثرية فيه عبر حزب «الحرية والعدالة»، بل إنهم استبقوا الخميني بخطوة حين أرادوا السيطرة على إعادة كتابة الدستور تلك التي لم تمكنهم منها أحوال مصر وظروفها المعاصرة، فعادوا أدراجهم لركوب الموجات المتاحة شبابا ثائرا ومرشحين خاسرين وتوجهات قومية وآيديولوجية، وسيقدمون لاحقا كل أنواع التفسيرات والتأويلات للمفاهيم والشعارات التي صعدوا عليها.

إن أسس الثورة الإيرانية من تيارات ومفاهيم وأفكار تم تحويرها بسهولة لخدمة المرشد الأعلى، وإن مخاضا مماثلا يجري في مصر، فـ«الإخوان» يسعون جهدهم لاقتحام السلطة القضائية والتدخل في شؤونها بشتى السبل، وهم يحلمون أيضا بالقدرة على التغلغل في الجيش واستمالته لصفهم، ولئن صحت الأنباء بتوافدهم على تركيا لنقل التجربة التركية تلك التي رفضوا تصريحات قائدها أردوغان عن العلمانية، فربما كان من أهم ما يريدون نقله عن التجربة التركية هو قدرتها على تحييد الجيش، وقد بدأوا بمغازلة الجيش عن طريق طلبهم في البرلمان لرفع رواتب عناصر الجيش 400%.

نقل أبو الحسن بني صدر الرئيس الأول للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لقاء مع قناة «الجزيرة» عن الخميني قوله: «وفي خطب الجمعة شجع رجال الدين على تزوير الانتخابات للوصول إلى البرلمان، وذهبت إليه وقلت له: إن هذا الأمر مرفوض، أجابني أن لا كلمة للشعب، الكلمة لرجال الدين» ولئن جاء الخميني على أكتاف الشعب بتياراته وشارعه ثم تنكر له فإن ذلك تحول لمنهج متبع في إيران حيث صرح المرشد الثاني خامنئي إبان الثورة الخضراء بأنه «لن يرضخ للشارع».

كان الشاه في نهايات حكمه يتساءل باستغراب: «هل يمكن أن يكون كل الأشخاص المثقفين الذين تلقوا علومهم في جامعات إيران وفي الخارج أنصار الخميني حقا؟ هل هذا معقول!» وأجابه إحسان نراغي: «بالنسبة لهم، الخميني رمز قبل كل شيء» (من بلاط الشاه إلى سجون الثورة) ص130.

الثورات بحاجة لرموز، وقد كان الخميني رمزا للثورة الإيرانية توافقت عليه التيارات قبل أن يمسحها جميعا، ولكن احتجاجات مصر بلا رمز سياسي يمتلك كاريزما قائد ورؤية متكاملة للواقع والمستقبل، فأنتج تدافع التيارات معركة رئاسية بين عسكري ووزير سابق يتبنى الدولة المدنية، وجماعة الإخوان المسلمين التي تتبنى الدولة الدينية وإن سمتها مدنية بمرجعية إسلامية.

مع نفي التطابق، إلا أن بعض أحداث التاريخ تعيد نفسها بشكل أو بآخر، ووجود التشابه حين يكون كبيرا يغري بالمقارنة، وقراءة الماضي تعين على استكشاف المستقبل.

أخيرا، فإنه أيا كان المنتصر في مصر، فإنه سيواجه تحديات كبرى في بناء الدولة والعلاقات مع دول المنطقة والعالم، وسيكون عليه أن يواجه استحقاقات صعبة، وأن يأخذ قرارات مريرة وغير شعبية.