سوريا المنكوبة..

TT

قال كلاوس سورنسن مدير عام المكتب الأوروبي للعمليات الإنسانية في سوريا، يصف الحالة السورية: «لدينا شعور بأننا نعدو خلف قطار تتزايد سرعته.. إنه قطار المعاناة الإنسانية..».. ويقترب كلام سورنسن من فكرة كرة الثلج التي تتدحرج باتجاه المنخفض، مما يعني أن الحالة السورية، تذهب من السيئ باتجاه الأشد سوءا من الناحية الإنسانية، وينذر الأمر بقرب حصول كارثة إنسانية، إن لم تكن سوريا قد بلغتها بعد نتيجة ما حصل وما يحصل فيها.

إن المسار المعقد لأحداث سوريا، جعل العوامل الدافعة لوصولها إلى الكارثة الإنسانية معقدة هي الأخرى. ففي وقت واحد، كانت نتائج الحل الأمني العسكري التي تتابعها السلطات السورية في معالجة الأزمة، وبالتوازي معها ظهرت نتائج مبادرات الحراك الشعبي المطالبة بالحرية، وردات فعله في مواجهة سياسات عنف السلطات وأجهزتها، وخارج السياقين وبالتفاعل معهما، كان خطان آخران يتركان آثارهما المباشرة على الأزمة؛ أولهما ما تطورت إليه البيئة العامة في سوريا، والثاني ما سببته العقوبات التي تم إقرارها من جانب دول وهيئات إقليمية ودولية بينها جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، ومن محصلة السياقات الأربعة، ولدت نتائج الأزمة التي تضرب البلاد، وتجعلها في مقام البلد المنكوب.

إن من الصعب حصر النتائج التي سببتها الأزمة، وما تمخضت عنه بالأساس سياسات السلطات السورية الأمنية العسكرية في الوقت الحالي وتفاعلاتها. لكن من الممكن رسم ملامح عامة، لما آلت إليه الحالة السورية من كارثة، أصابت السكان في مختلف جوانب حياتهم، وكثير منها أصبح يمثل تهديدا قائما لحياة السوريين الراهنة والمستقبلية ولا سيما حياة الفئات الضعيفة والمهمشة من الأطفال والنساء والفقراء.

لعل الأبرز في مؤشرات ما أصاب السوريين، يمكن ملاحظته بما لحق بهم نتيجة السياسات الأمنية العسكرية، التي تسببت في مقتل عشرات آلاف الأشخاص، بينهم عدد من سبعين ألف مفقود، يسود اعتقاد أن كثيرا منهم قتلوا لأن أحدا لم يستطع التعرف على أماكن اعتقالهم ولا الذين قاموا باعتقالهم. ويقدر مجموع الذين اعتقلوا في سوريا خلال الأزمة بمئات الألوف، وهناك عشرات ألوف الجرحى وكثير منهم لديه إصابات دائمة، جعلت منهم عاجزين عن متابعة حياتهم الطبيعية، وطبقا للتقديرات، فإن أكثر من نصف مليون سوري صاروا في عداد اللاجئين إلى دول الجوار وما بعدها، وهناك أكثر من مليون تحولوا إلى لاجئين في سوريا خارج مناطق سكنهم العادية نتيجة عدم قدرتهم على البقاء في المناطق التي كانوا يعيشون فيها لأسباب أمنية، أو بفعل تهجيرهم عمدا.

وإذا كانت الأزمة قد أصابت الأشخاص بهذا المستوى من القتل والدمار، فإن الأزمة وإجراءات الحل الأمني العسكري أصابتا بالخراب البنى التحتية في معظم المدن والقرى السورية، وخصوصا في المناطق الساخنة ومنها محافظات درعا وحمص وريف دمشق وادلب ودير الزور. وفيها أصاب الدمار مئات آلاف البيوت والمحال والمنشآت الصناعية والتجارية والخدمية، كما شمل تدميرا أو تعطيلا كليا أو جزئيا لشبكات المياه والكهرباء والهاتف ووسائل المواصلات، ولعل ما أصاب حمص من دمار في الممتلكات والبنى التحتية هو المثال الأوضح، إذ دمر أكثر من نصف مساكن المدينة، وقسما رئيسيا من بناها التحتية، واختفى كليا أو بصورة جزئية كثير من أسواقها.

ورغم أهمية ما أصاب الأفراد والمناطق التي تعرضت للقصف والاجتياح الأمني والعسكري، فإن ما أصاب مجمل البيئة العامة السورية كان أكثر عمومية واتساعا، وله أبعاد راهنة وأخرى مستقبلية، لعل من الصعب ملاحقة تفاصيلها، غير أن دراسة صدرت أواخر عام 2011 قاربت ملامح ما أصاب البلاد من خسائر مادية، فأجملت الخسائرَ الناجمة عن الأزمة بنحو 25 مليار دولار، وعزت الدراسة التي أجراها الخبير الاقتصادي حسين العماش أسباب تلك الخسائر إلى عوامل أبرزها فقدان الإيرادات المباشرة الداخلية للدولة، وتوقف التحويلات والمعونات والاستثمارات الخارجية، وتوقف النمو الاقتصادي وانكماشه، وتراجع الإنتاج في منشآت القطاع الخاص، وتوقف السياحة، وهروب الأموال وارتفاع تكاليف العمليات العسكرية، وتدمير المرافق العامة، وصعوبات الاستيراد والتصدير، ثم ما خلفته العقوبات الدولية من خسائر.

لقد زادت المعطيات الأخيرة إلى ما سبقها حدود المعاناة التي يعيش السوريون في ظلها. والتي في نتائجها فقد عشرات آلاف حياتهم، وأخرج مئات آلاف السوريين من الحياة كليا أو جزئيا بسبب إعاقتهم أو اعتقالهم أو تهجيرهم، ولم تقتصر المعاناة على هؤلاء، بل شملت من فقدوا معيلهم من نساء وأطفال ومتقدمي السن والعجزة، إضافة إلى تدمير الإمكانيات المادية لقطاعات واسعة من السكان، وتعطيل أو تدمير حياتهم الطبيعية، إضافة إلى القضاء على مصادر كسبهم وعيشهم، ودفع كثير منهم نحو مواجهة ظروف مأساوية في إقامتهم أو في هجرتهم الداخلية والخارجية.

غير أن الأخطر مما سبق في نتائج وتداعيات استمرار الأزمة، أنها تضع البلاد أمام انهيار اقتصادي – اجتماعي ستكون له تداعيات سياسية خطيرة، وقد بدأت بالفعل بعض تجليات الانهيار تظهر واضحة، والتي من بينها تراجع دور الدولة في المجالات كافة مع تركيز خاص لجهودها في المجال الأمني العسكري، وتوقف كلي أو انخفاض عام في مجالات الإنتاج والخدمات، وتعميم الغلاء والفقر وما يصاحبهما من تداعيات اجتماعية وسياسية.

ولعله لا يحتاج إلى تأكيد، القول إن نتائج الأزمة تمثل كارثة تضرب سوريا وسكانها، وهي في معطياتها ونتائجها لا تقل أهمية عن نتائج كوارث طبيعية، ضربت عددا من بلدان العالم في السنوات العشر الماضية، وقد تسببت الكوارث في عام 2010 بخسائر مادية للعالم قدرها 130 مليار دولار، بينما خسائر سوريا في تسعة أشهر فقط بلغت نحو 25 مليار دولار، وينتظر أن تكون قد تجاوزت 40 مليار دولار بعد ستة عشر شهرا من الأزمة، ولعل ذلك في جملة معطيات تكفي لإعلان سوريا بلدا منكوبا بفعل السياسة الأمنية العسكرية.