غباء «جماعة»

TT

كان الرئيس السادات، قد أطلق عبارة شهيرة على خصومه السياسيين، في بدايات عهده، وهي عبارة راح يرددها كثيرا، فيما بعد، ليدلل بها، طول الوقت، على مدى تواضع القدرات العقلية للذين كانوا ينافسونه على الحكم، بعد رحيل عبد الناصر.

الغريب، أن العبارة ذاتها، تصلح اليوم، للتعبير بدقة، على نحو ما، عن وضع جماعة الإخوان المسلمين، في حياتنا العامة، في القاهرة، منذ حصلت من خلال حزب الحرية والعدالة الذي يمثل ذراعها السياسية، على 47 في المائة من إجمالي مقاعد البرلمان الحالي، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. فالجماعة تملك أغلبية نسبية في البرلمان، ولا تملك أغلبية مطلقة، ومع ذلك، فإنها تتصرف في كل لحظة، على أنها لا شريك لها في البرلمان، وأنها تملك جميع مقاعده، ومن حقها، بالتالي، أن تحكم، وتشرِّع، وتفعل ما تشاء دون ضابط، ولا قيد، ولا مراعاة لأصول، أو قواعد.

وإذا كنا نقول هنا، إن «الجماعة» فعلت «كذا» ولم تفعل «كذا» دون أن نفرِّق بينها، كجماعة دعوية من ناحية، وبين الحزب السياسي الذي خرج من باطنها، من ناحية أخرى، فإن ذلك راجع إليها هي، وليس إلى الذين يتحدثون عن الكيانين باعتبارهما كيانا واحدا، إذ المعروف أن أصواتا بلا حصر، كانت قد خرجت، ولا تزال، لتطالب بحل الجماعة، واندماجها في الحزب، لنكون أمام حزب سياسي شأنه شأن باقي الأحزاب، فيجري عليه ما يجري على تلك الأحزاب، ولكن نداءات هذه الأصوات، قد ذهبت دون جدوى، فلا تزال الجماعة كما هي، كما كانت أيام الرئيس السابق حسني مبارك، ولا تزال تخلط الدين بالسياسة، ولا يزال المتابعون للشأن العام عاجزين عن التفرقة بين الحزب في جانب، والجماعة في جانب آخر.

في كل الأحوال، يمكن رصد ثلاثة مآخذ أساسية، تُحسب على الجماعة، وليس لها.. ويكفي كل مأخذ منها، بمفرده، لأن يجعل عبارة السادات إياها، منطبقة تماما على الجماعة وقياداتها.

الأول، أن الجماعة راحت تكيد لحكومة الدكتور كمال الجنزوري، منذ يومها الأول، وإذا كانت هذه الحكومة قد قضت حتى الآن، نحو ستة أشهر في الحكم، دون أن تحقق ما كانت تريد أن تحققه، فإن السبب الأول في ذلك، يعود إلى نوع من التحرش الدائم كان البرلمان يمارسه معها، من خلال حزب الحرية والعدالة، ولو أن أحدا راح يراجع هذه السلسلة من التحرشات التي مورست بشكل دائم، مع الحكومة، فسوف يلاحظ أنه كان تحرشا من أجل التحرش في حد ذاته.. وإلا.. فماذا يعني أن يظل البرلمان، من خلال أغلبيته النسبية، يهدد طول الوقت، بأنه سوف يسحب الثقة من الحكومة، ثم لا يسحبها، وما معنى أن يظل يضغط من أجل إقالة الحكومة دون هدف واضح، فلما أدخل المجلس العسكري الحاكم، تعديلا وزاريا محدودا للغاية، على الحكومة، تراجعت الضغوط واختفت، وكأن الهدف كان مجرد إحراج الحكومة، وتعطيلها، ووضع العقبات في طريقها.. لا أكثر.. وربما لهذا السبب، ضج المصريون، من هذه اللعبة العبثية المكشوفة، مع الحكومة، لأن المواطنين أنفسهم، هم الذين دفعوا ثمن هذه اللعبة، في صورة تعطيل مصالحهم، و«وقف حالهم» على مدى الأشهر الستة، التي هي كل عُمر البرلمان والحكومة معا!

هذا عن المأخذ الأول.. أما الثاني، فهو يتصل باللجنة التأسيسية التي سوف تكتب دستور مصر فيما بعد الثورة، إذ رغم أن القضاء الإداري حكم ببطلان تشكيل اللجنة من بين أعضاء البرلمان، فإن الجماعة كانت ولا تزال مصممة، على أن أغلبيتها النسبية في البرلمان تعطيها الحق في أن تتحكم في اللجنة، وتنفرد بها، وتضع بالتالي دستور البلد، على غير ما يعرفه العالم كله، من أن الدساتير توضع بإجماع الأمم، وليس بأغلبية برلمانية فيها.

يتصرف الإخوان المسلمون، بوعي، أو عن غير وعي، بالطريقة ذاتها التي كان الحزب الوطني الحاكم قبل الثورة يتصرف بها، بما جعل كثيرين يقولون، عن صدق، إننا اليوم نجد أنفسنا أمام حزب وطني جديد، ولكنه بـ«لحية» هذه المرة!

عطلت الجماعة، إذن، أعمال الحكومة، وراحت في الوقت ذاته، تعطل تشكيل اللجنة التأسيسية، لدرجة أن المجلس العسكري لما ضاق ذرعا بهذا التعطيل المتواصل، والمتعمد، أعطاهم فرصة أخيرة المفروض أنها انتهت صباح الخميس الماضي، فبعدها، سوف يجد «العسكري» كما لوَّح مهددا، أنه مضطر لتشكيل اللجنة من جانبه هو، وبمبادرة منه هو، دون انتظار أحد.

وكانت انتخابات الرئاسة، هي المأخذ الثالث الأهم، على الجماعة، لأنها كانت قد وعدت، منذ وقت مبكر، بأنها لن يكون لها مرشح في الرئاسة، وقد صدقها الناس وقتها.. ولماذا لا يصدقونها؟!.. أليست جماعة تؤكد في كل ساعة، أنها تعمل وفق ما قال الله تعالي، وما قال رسوله الكريم؟!.. لقد فوجئنا بها تدفع بمرشح، في اللحظة الأخيرة، ولا تكتفي بذلك، وإنما تشم رائحة عن أن مرشحها ربما يخرج من السباق، لأسباب قانونية، فتدفع بمرشح احتياطي، هو الذي يخوض الانتخابات الآن فعلا!

من قبل، كانت قد قالت إنها سوف تنافس على 35 أو 40 في المائة فقط من مقاعد البرلمان، فإذا بها أيضا، وقت الجد، تنقض وعدها، علانية، وتنافس على 100 في المائة.. ومن قبل كانت قد فصلت الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح لأنه أعلن أنه سوف يرشح نفسه للرئاسة، بما يعني أنه خرج على مبادئها المعلنة، التي تقضي بعدم الترشح، فإذا بالجماعة نفسها، هي التي تخرج على مبادئها، وتدوس فوقها، دون أن تلتفت إلى أنها وعدت الناس، ثم تنصلت من وعودها، وأن هؤلاء الناس يراقبون ما يحدث، ليكون لهم رأي في النهاية!

وقد جاء هذا الرأي ليتجسد في مجمل الأصوات التي حصل عليها مرشح الجماعة في انتخابات الرئاسة، مقارنة بأصواتها في انتخابات البرلمان، فمرشحوها في البرلمان حصلوا على 10 ملايين صوت، بينما حصل مرشحها الرئاسي على 5 ملايين صوت، بما يعني أنها خسرت 50 في المائة من مصداقيتها لدى المصريين، في ستة أشهر!

كان خصوم السادات، في بدايات أيامه، قد أرادوا أن يحرجوه فقدموا استقالات جماعية إليه، فقبلها هو في الحال، ثم راح في مناسبات لاحقة يقول إن هؤلاء الخصوم يجب أن يخضعوا للمحاكمة بتهمة الغباء السياسي.. وكان يزيد فكرته شرحا فيقول ما معناه، إنه كان يبحث دون أمل عن وسيلة يتخلص بها من هؤلاء الخصوم، فإذا بهم هم أنفسهم يقدمون له الوسيلة على طبق من ذهب، وإذا بهم كما قال هو، يربطون أنفسهم بحبل، ثم يعطونه طرف الحبل، فيشده ليسقطوا جميعا، في لحظة!

الشيء نفسه، ارتكبه الإخوان في حق أنفسهم، مع الرأي العام، تارة، ومع سائر القوى السياسية، تارة أخرى.. والشيء المدهش أنهم لم يربطوا أنفسهم بالحبل مرة، وإنما ثلاث مرات!