غسان تويني: أكثر من وداع!

TT

«قالوا لي، أيها الموت، إني سأقضي في ضيافتك يومين أو ثلاثة أو أربعة.. أو ربما بقية العمر، من يدري؟ أتعرف لماذا لا يخافك بعضنا؟ لأن ثمة خيطا رفيعا شفافا غير منظور تنسجه الحياة فينا، في قلبنا يوما بعد يوم، حتى إذا ما اكتمل، يدرك واحدنا أن له في دنياكم من الأصحاب أكثر مما بقي له في الحياة، دنيانا». هذه الكلمات كانت رد الفعل الأول لغسان تويني في مواجهة موت محتم نجا منه في عام 1977 بعد عملية جراحية في قلبه الكبير الذي لم يتوقف عن الحب والإيمان إلا ليتنفس في عالم يضيق فيه النفس.

في زاوية سرية من قلب غسان تويني تقيم كل أسرار الدولة اللبنانية الحديثة ورموزها، وفي زاوية أخرى من هذا القلب نلمس سر المهنة وأسرارها الأخرى التي كانت سببا في شروق وازدهار «نهار» أبي جبران في لبنان والعالم العربي.

جمع غسان تويني في شخصه صورة الأديب والحكيم ورجل الدولة والدبلوماسي، وأكثرها التصاقا به على الدوام كانت صورة الصحافي صاحب الرسالة التي تماهت مع جوهر لبنان الرسالة قبل أن يتحول لبنان إلى صندوق بريد لدول متنازعة.

ابتعد غسان تويني المتأمل الحر في تفكيره عن اليومي إلى التاريخي، ليفسر المستقبل المحدق بالمنطقة على طريقته، ووفقا لقراءة شجاعة نبهت ومنذ عقود إلى الأخطار المحدقة بمستقبل المنطقة ككل، وكان يلح في انحيازه للإنسان ركيزة كل مستقبل.

كان محاوروه اللبنانيون يسألونه عن قضايا ذات صلة بيوميات السياسة اللبنانية الغارقة في الكم والنوع، فيجيبهم ساخرا: «إذا أحرقت دواليب في الشارع، هل تعفونني عن الإجابة؟»، وحين يسأل عن الموت، يجيب ضاحكا: «لماذا لا أضحك ولماذا لا يضحك الموت عندما تكون له أسماء الذين ملأوا أيامنا الحلوة ثم ذهبوا، فإذا بالموت يفقد قناع الخرافة البشع ليتلبس صور الذين نطرب لذكرياتهم الملاح ونضحك معهم كل نهار. نفهمهم ويفهموننا ونكاد كلما جلسنا نسمعهم، إنهم كذلك لا يزالون يضحكون؟».

عندما اغتيل نجله النائب جبران في ديسمبر (كانون الأول) 2005، زرته في دارته ببيت مري معزيا وحضرت زوجته الفاضلة شاديا.

روى لنا يوم كان مراسلا لـ«النهار» في القدس 1947 كيف كان يتألم حين يقرأ الشعارات التي يرفعها المستوطنون «لونشكاح فلو نسلاح»، أي «لن ننسى ولن نغفر»، وكان يسأل: كيف يرددون شعارا كهذا ويطرحون فكرة التعايش؟!

ما سرده يومها فسّر حيرتي أمام نصه المؤسس لثقافة الغفران فوق جثمان جبران: «أنا أدعو اليوم في هذه المناسبة لا إلى الانتقام ولا إلى الحقد ولا إلى الدم. أدعو إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والكلام الخلافي كله، وأن ننادي بصوت واحد ذلك القسم الذي أطلقه في ساحة الشهداء: أدعو اللبنانيين - مسيحيين ومسلمين - إلى أن يكونوا موحدين في خدمة لبنان العظيم وفي خدمة قضيته العربية». كان لهذه الرسالة التاريخية حينذاك الأثر الكبير في عزيمة الشباب المرابط في ساحة الشهداء طلبا لاستكمال السيادة والاستقلال، لكن سرعان ما قرأ خصوم جبران وخصوم الاستقلال «رسالة الغفران» بصورة معاكسة، بتأثير عنتريات سياسية وتبعية دفع ثمنها لبنان لاحقا ويلات وحروبا ودموعا، كان بالإمكان تجاوزها.

لم تكن الحياة أبهج ما يبتغيه غسان تويني، لذلك كانت «النهار» الصحيفة الأكثر حضورا في سوريا التي يحكمها نظام تخيفه الكلمة ولا يتوانى عن الرد عليها برصاصة. نظام أوجد عشرات الفروع الأمنية، لكنه لا يصدر صحيفة مستقلة واحدة. نظام كل ما أنتجه وأوهمنا به هو صحافة بغضاء تشبه الأحكام العرفية والمحاكم الميدانية، حاقدة على المجتمع، وظيفتها صناعة الوهم وتدجين العقول، صحافة سوداء نتاج حزب واحد وذهنية واحدة طبعت البلاد بلونها، قضت على كامل مؤسسات المجتمع المدني وألغت مظاهر الحياة السياسية والديمقراطية لتحل محلها المظاهر الأمنية.

كنا نتهامس - نحن السوريين - بسخرية في المقاهي الدمشقية: أيهما يخيف النظام الأسدي أكثر، صحيفة «النهار» أم وزارة الدفاع الإسرائيلية؟ تأتي الإجابة سريعا: صحيفة «النهار» بالطبع، لأنها ميدان لاستقطاب الكلمة الحرة المناهضة للديكتاتور ومرآة للمشهد السوري الآخر. اللافت حقا أن الصحافة الإسرائيلية غير محجوبة في سوريا، بينما يحتاج متصفح «النهار» لأكثر من بروكسي للتحايل على قراءتها وغالبا ما تفشل المحاولة، مما يضطرنا لتداولها كمنشور سري. التساؤل عن خوف النظام من صحيفة «النهار» لم يكن بريئا في حينه، بل جاء بعد تصريح لوزير الإعلام السوري السابق مهدي دخل الله الذي وصف فيه كتّابها بالعملاء واعتبر صحيفة «يديعوت أحرونوت» التي تصدر في إسرائيل المعادية - افتراضيا - لنظامه أفضل من «النهار» أو مشابهة لها على أحسن تقدير.

لهذا، يعتبر الكثير من السوريين اليوم صحيفة «النهار» شريكا في ربيع دمشق الذي وعد به الأسد الصغير بعد وراثته السلطة عن الأسد الكبير، ليقود مسيرة التحديث والتطوير التي بدأها بوأد الربيع الموعود باعتقالات طالت غالبية رموز ربيع دمشق. ولا تزال صحيفة «النهار» المنبر الإعلامي الأبرز في تبني قضية كفاح الشعب السوري من أجل الحرية والديمقراطية. فهي تؤازر الثورة الشعبية السلمية بمهنية عالية، على العكس تماما من الصحافة اللبنانية المحازبة، التي لا تزال تسيل عليها دماء السوريين ولا ترى في ثورتهم إلا استكمالا للمؤامرة التي تستهدف النظام الممانع والداعم للمقاومة في دمشق.

هذا الموقف الأخلاقي لصحيفة «النهار» لا يعود إلى تقاليد «النهار» الليبرالية وحسب، بل إلى إيمان غسان تويني العميق بحتمية الحرية في سوريا وتحمّله لتبعاتها.

سألت ذات يوم الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أن يكتب مقدمة لكتاب يرصد مسيرة غسان تويني الإنسانية والسياسية والمهنية، أعددته حينها لمؤسسة «الجزيرة». قال درويش: «ستأخذ الكتابة عن غسان في هذه الظروف شكل الرثاء، لا أريد لنفسي أن أرثي غسان حيا». وأضاف: «رثاء الأصدقاء يتعب الروح..». أرواحنا اليوم متعبة، لسنا على ما يرام، لكننا ندرك أن الموت رغم قسوته لن يقوى على قلب غسان الذي جعله الحب من الخالدين.

برحيل غسان تويني تخسر الجمهورية اللبنانية الحديثة أحد منظّريها ويخسر الإرشاد الرسولي المسيحي أحد أبطاله المعاصرين، وتخسر الكلمة واحدا من أصدق فرسانها وأكثرهم انحيازا لشرف مهنة لطالما دفعت «النهار» ثمنها دما.

اليوم، ينام غسان تويني ملء جفنيه، أما ديكه، أو قل روحه، فساهر علينا وعلى ما نطمح إليه من حرية.

* كاتب سوري